عُرف “قانون دولة ساكسونيا” في العصور الوسطى، إذ كان يطبق العدالة على أساس طبقي، فإذا ارتكب أحد النبلاء جرمًا ضد أحد أبناء الطبقة الفقيرة والمهمشين يعاقب ظل هذا النبيل. ورغم استخدام وحيد حامد لهذه الفكرة بشكل صريح في مسلسله الإذاعي الذي تحول إلى فيلم «الغول»، إلا أنه صار رمزًا مدموغًا بتوقيعه، يعبر عن غياب العدالة وقصور القانون في معاقبة أصحاب السلطة والنفوذ، وقدرتهم على القفز فوقه لتحقيق مآربهم الشخصية أو استغلال ثغراته في سبيل الإفلات من المسائلة والعقاب.

لم يكن قانون ساكسونيا أو غياب العدالة في مسيرة وحيد حامد مجرد مسلسل إذاعي تحول إلى فيلم ناجح يناقش قضية العدالة وعجز القانون أمام بعض الطبقات والأفراد الذين يملكون مكانة تجعلهم جاثمين فوق أعناق البشر، ولكنه كان همًا يؤرقه ويحمله على أكتافه منذ بداياته في الإذاعة ثم السينما، وموضوعًا يستفزه من حين لآخر ويدفعه إلى وإثارته ومهاجمته سواء بشكل مباشر مثل في أول أفلامه «طائر الليل الحزين» أو في فيلم «الغول» و«ملف في الآداب»، أو كجزء من سياق آخر أو حتى في حوار عابر بين شخصيات أفلامه.

منذ فيلم «طائر الليل الحزين» صارت تيمة تعاون المواطن العادي مع الشخص المنوط به تطبيق القانون (وكيل النيابة/ ضابط الشرطة) في سبيل تحقيق العدالة من أهم الثنائيات التي برزت في سينما وحيد حامد باختلاف محطاته المهنية، فإلى جانب هذا الفيلم الذي أخراجه يحيى العلمي، تتجلى هذه الثنائية أيضًا في فيلم «الغول – 1983» من إخراج سمير سيف، وفيلم «اللعب مع الكبار – 1991» الذي يعد التعاون الأول بينه وبين المخرج شريف عرفة والذي استهل به خماسيتهما عن المواطن في مواجهة السلطة.

أحيانًا ما تميل كفة الميزان ناحية أحد طرفي الثنائي، فنجد حازم وكيل النيابة في «طائر الليل الحزين» هو الشخص الذي يتحمل العبء الأكبر في إثبات براءة عادل، في حين يكون عادل عيسى الصحفي / المواطن، هو المحرك للرحلة بينما وكيل النيابة هو تابع له. لكن تتساوى كفتي الميزان في «اللعب مع الكبار» عندما يؤمن ضابط الشرطة معتصم الألفي بأحلام حسن بهلول ويقرر مجاراة أسلوبه.

من اللافت للانتباه أيضًا أن كل فيلم من هذه الأفلام الثلاثة عبر عن هشاشة القانون وضعفه في ظل مرحلة ونظام مختلف في التاريخ المصري (عبد الناصر، السادات، مبارك)، مسلطًا الضوء على الوحوش الضارية التي خلقها الفساد الذي انتشر في كل عصر بسبب غياب العدالة وعدم تطبيق القانون على الجميع، ونقد الثغرات التي سمحت لأصحاب النفوذ بالإفلات من العقاب، والتغول إلى حد الانتقام من الضعفاء وقليلي الحيلة، ممن لا يملكون سلطة أو مال يحميهم.

فيلم «طائر الليل الحزين»

العدالة في مواجهة مراكز القوة

كان «طائر الليل الحزين» هو أول سيناريو يكتبه وحيد حامد للسينما بعد أن دخل في تحدي مع المنتج مخلص الشافعي، الذي أعجب بالمسلسل الإذاعي الذي يحمل نفس الاسم وطلب شراء قصته بعد عرض سبع حلقات منه، إلا أن وحيد أصر على كتابة السيناريو بنفسه، وفعلها في يوم واحد تقريبًا. كانت فترة السبعينيات هي موضة الأفلام التي تنتقد نظام عبد الناصر متمثلاً في جهازه الأمني، وظهرت أفلام عديدة تحكي عن الاعتقالات وتلفيق التهم لأصحاب الرأي مثل «زائر الفجر»، أو استغلال أصحاب النفوذ من موظفي هذا الجهاز لمكانتهم في اصطياد النساء مثل «حافية على جسر الذهب».

من هذا الفيلم أيضًا يمكننا أن نلمح العديد من السمات التي تكررت في أعمال وحيد حامد وصارت علاماته المميزة، فإلى جانب قضية العدالة وثنائية تعاون المواطن ورجل القانون، سنجده يصب فكرته في قالب الموضوع الرائج في تلك الفترة، وسيتكرر ذلك كثيرًا في مسيرته، فنراه يناقش مشاكل المواطن العادي من خلال اشتباكه مع القضايا المهيمنة على الصورة في كل وقت مثل الانفتاح والإرهاب والفساد السياسي.

عندما تساهم الصدفة في هروب عادل (محمود عبد العزيز) المحكوم عليه بالإعدام في جريمة قتل، يذهب بحثًا عن وكيل النيابة الذي زج به في السجن ليبحث معه عن الشاهدة التي ستثبت براءته. حازم المغربي (محمود مرسي) ليس مجرد وكيل نيابة عادي لكنه رجل تؤرقه المسؤلية تجاه قضاياه وتحقيق العدالة في صورتها المثالية، لذا عندما يلجأ إليه عادل ليأجج الشك الذي نلمحه في نظرة القدير محمود مرسي لحظة النطق بالحكم، لا يتردد في خوض غمار رحلة البحث عن الشاهدة المجهولة.

ولأن قضية الفيلم ليست عن مُدان يحاول إثبات براءته ولكنها عن محاولة الانتصار للعدالة المهدرة في ظل مناخ فاسد، يختار وحيد حامد أن يقع عبء تحقيقها على عاتق رجل القانون المنوط به حمايتها، وتصبح المواجهة بينه وبين طلعت مرجان (عادل أدهم بالطبع)، رجل الأمن المتنفذ، الذي يستخدم كل سلطاته وأسلحته، من الاعتقال وتلفيق التهم، لمنع وصول زوجته إلى منصة الشهود حتى لو تطلب الأمر قتلها، ويصير وجود عادل (المواطن) مجرد حضور ثانوي ورد فعل للمباراة الدائرة بين حازم وطلعت.

لا يمكننا التعويل على نهاية الفيلم، إذ صرح وحيد حامد في مناسبات عدة أنها قد تم تغييرها دون علمه لتلائم التوجه السياسي للمرحلة، والمشاهد الجيد لسينما وحيد حامد يمكنه أن يدرك ببساطة، دون هذا التصريح، أن الدعاية المباشرة للنظام ليست من أسلوبه، لذا يمكننا العودة إلى نهاية المسلسل الإذاعي التي تتسق مع فكر وحيد حامد، إذ ينتصر صاحب النفوذ الغاشم على العدل مع دعوة للتفائل والأمل من أماني المغربي (شقيقة حازم)، أن يوم ما ستنقشع الغمة وتتحقق العدالة.

غول الانفتاح

ومثلما فعل السادات مع نظام عبد الناصر وفتح الباب على مصرعيه لنقده ومهاجمته في السينما، دارت الدائرة ووصلت إلى قوانين الانفتاح عقب اغتيال السادات، واتجهت إلى نقد تبعاته الاجتماعية والاقتصادية. أُنتج فيلم «الغول» عام 1983، أيضًا في أوج موضة هذه الأفلام، ولكنه على عكس الأفلام التي اتجهت إلى الحديث عن الموظفين المرتشين والفاسدين ورجال الأعمال الذين تاجروا بالشعب، أتجه وحيد حامد إلى موضوعه الأثير وهو العدالة، التي فسدت أيضًا بفساد كل شيء، وكيف سمح هذا النظام ليس فقط بالمتاجرة بقوت الفقراء وصحتهم ولكن بحياتهم أيضًا.

انتشرت في تلك الفترة أيضًا الأفلام التي تنتصر للعدالة الفردية في ظل غياب سلطة القانون أو عجزه عن تحقيقها للمتضررين، ما يعكس حالة يأس عامة وفقدان الثقة في قدرة القانون على الصمود أمام الفساد، وقد نال عادل إمام نصيب الأسد منها بأفلام مثل «حب في الزنزانة»، و«أنا اللي قتلت الحنش» وغيرها، وانتمى إليها الغول أيضًا.

يضع وحيد حامد هنا مركز الثقل في المواطن (عادل عيسى)، ويكون دور رجل القانون (وكيل النيابة حسين أبو ضيف) شريكه في رحلته لتحقيق العدالة مجرد إنعكاس للصراع الدائر بين عادل وفهمي الكاشف، فهو موظف فقط يؤدي ما تقتضيه مهنته في حدودها المرسومة، على عكس شخصية حازم في «طائر الليل الحزين»، في حين يبدو عادل عيسى/ المواطن كفارس ناقم على الأوضاع الخاطئة، يحارب طواحين الهواء، ويحمل بداخله غضب مكتوم، ليأتي حادث نشأت الكاشف ويفجره.

يبدأ عادل بالمغامرة بكل شيء في سبيل تسليم نشأت إلى العدالة بالتعاون مع وكيل النيابة الذي يستخدم سلطة القانون في حدودها الضيقة والعاجزة أمام نفوذ الكاشف وقدرته على إفساد أي دليل قبل الوصول إليه، وحتى مع نجاحهما في الزج  بنشأت في قفص الاتهام قبل النهاية، يعجز القانون أيضاً عن إدانته، لتتخطى المشكلة حجم نفوذ الجاني إلى هشاشة القانون وفشله في الثأر للمجني عليه.

ولأن «الغول» ينتمي إلى مرحلة اليأس وانعدام الثقة سالفة الذكر فهو ينتهي بقتل عادل عيسى لفهمي الكاشف، رمز كل ما هو فاسد ودنيء في هذه المرحلة، تحقيقًا للعدالة التي أخفق القانون في إنجازها، والتي، من خلالها، يدق وحيد حامد ناقوس الخطر ويلفت الانتباه لتبعات هذا الفشل الذي سيؤدي في النهاية إلى سيادة قانون الغابة.

الملصق الدعائي لفيلم «الغول»

اللعب مع الكبار

يبدأ وحيد حامد بفيلم «اللعب مع الكبار» 1991 مرحلة جديدة ومختلفة في مسيرته، إذ يغوص في قضايا أكثر تعقيدًا وحساسية، مثل نقد الأجهزة الأمنية وأداء السلطة في مواجهة الأزمات ومشكلات المواطن البسيط  وعدم قدرته على الوصول إلى احتياجاته الإنسانية الأساسية في ظل نظام قائم لا يشعر بوجوده ولا يقيم له وزنًا، مستخدمًا الكوميديا السوداء اللاذعة، وكان اختياره لشريف عرفة مخرجًا لهذه الأفلام، التي استهلها بـ«اللعب مع الكبار» وانتهت بـ«النوم في العسل» 1996، اختيارًا ذكيًا، فرغم فشل أعمال عرفة السابقة على تحقيق نجاحًا جماهيريًا رغم جودتها الفنية، إلا أنه وجد في أسلوبه الفني الشكل الأمثل لبلورة أفكاره سينمائيًا.

في هذا الفيلم يركز وحيد حامد على الفساد الذي صار أخطبوطًا في عهد مبارك، وامتدت أرجله إلى كل مكان في البلد، فلم يقتصر فقط على رجال الأعمال الذي صنعهم انفتاح السادات، ولكنه وصل إلى مسئولين كبار وأعضاء في المجالس النيابية وغيرهم، من الذين استطاعوا التملص من المسائلة القانونية بفضل حصانة مناصبهم.

حسن بهنسي بهلول ليس إنسانًا وقع عليه ظلم مباشر يحاول التخلص منه مثل عادل عزام، ولا مثقفًا يحمل سيف الإنصاف مثل عادل عيسى، ولكنه مواطن عادي من طبقة فقيرة يمثل السواد الأعظم من الشعب. يصادف حسن مصدر معلومات خطيرة، يتوصل إليه من خلال صديقه علي الزهار، موظف السنترال، الذي يسلي نفسه في وردية الليل بالتصنت على المكالمات الهاتفية، ليقرر خوض مغامرته لتحقيق العدالة والإيقاع بالفاسدين والمجرمين، ظنًا منه أنه بمنأى عن الخطر فهو في حماية أقوى جهاز أمني في البلد.

تتساوى كفتي الميزان بين المواطن وممثل القانون في «اللعب مع الكبار»، فرغم محاولات معتصم الألفي ضابط الشرطة الوصول إلى مصدر معلومات حسن، إلا أنه يتفهم موقفه ورغبته المثالية في محاولة منع الجرائم قبل وقوعها، ويتعاون معه في سبيل تحقيق هذه الغاية حتى لو وصل الأمر إلى التحايل على الأوضاع  للإمساك بالمجرم، مثلما حدث في تتابع مشاهد المطار.

وعلى عكس النهاية القاتمة واليائسة لفيلم «الغول» التي لا ترى أي أمل في الإصلاح، ورغم انتصار قوى الشر بوصولها إلى مصدر تسريب المعلومات وقتلها لعلي الزهار، تأتي النهاية المسرحية، حيث يقف رجل الشرطة بسلاحه الذي يرمز إلى سلطته إلى جوار المواطن الذي لا يملك سوى أحلامه معلنين استمرارهما في ملاحقة المجرمين، ما يعكس أمل وحيد حامد في التغيير والقضاء على الفساد طالما لا يزال هناك من يسعى لتحقيق ذلك.

مشاركة: