يرتبط اسم المخرج الإسباني بيدرو ألمودوبار أو “ألمودوبار” كما يفضل أن يضع اسمه في بداية أفلامه بالجماليات الإسبانية والإفراط الميلودرامي، يمكن توقع عدة سمات في كل فيلم يخرجه، عدد كبير من الممثلات، وقدر كبير من اللون الأحمر والطعام والغناء ووقع اللغة الإسبانية المتسارع الذي يجعل للإيقاع الفيلمي طابع لغوي وموسيقي خاص. ربما لذلك، وعلى الرغم من شهرته العالمية، تأخر تواجده في عالم الأفلام الهوليوودية، بدأ الأمر بفيلم قصير من بطولة الممثلة البريطانية تيلدا سوينتون في عام 2020 بعنوان «الصوت الانساني» The Human Voice، الذي دارت أحداثه في مكان واحد مغلق كخيار فني ولوجيستي أثناء جائحة كوفيد ١٩، وفي ٢٠٢٤، هذا العام، بالاشتراك مع سوينتون مرة ثانية، صنع ألمودوبار فيلمه الطويل الأول باللغة الإنجليزية والذي تقع أحداثه في أمريكا وهو «الغرفة المجاورة» The Room Next Door المقتبس عن رواية «ما تمرين به» what you are going Through لسيجريد نونيز.

في تجربته الأجنبية الأولى يستعير ألمودوبار من ذاته جمالياته الخاصة المرتبطة بثقافته ونشأته والتي تنتقل بين إرث الميلودراما الأمريكية والتلفزيون الإسباني ليصنع تجربة تشبهه تماما في سياق ثقافي مختلف. حصل ألمودوبار على الأسد الذهبي من فينيسيا وعرض الفيلم في الشرق الأوسط من خلال مهرجان الجونة، ثم حاليًا في بانوراما الفيلم الأوروبي في سينما زاوية والزمالك في قلب القاهرة.

الموت كمقابل للمأساة
الثلج يسقط، يسقط على ساحة الكنيسة الوحيدة حيث يرقد مايكل فوري، يسقط بخفوت خلال الكون، ويسقط بخفوت مثل جيل ينتهي، يسقط على الأحياء والأموات. «الموتى» 1987/ «الموتى»- جيمس جويس.

يدور فيلم «الغرفة المجاورة» مثل كثير من أفلام ألمدوبار حول حيوات داخلية ومشتركة لعدة نساء، في حالة هذا الفيلم يركز على امرأتين الأولى انجريد (جوليان مور) كاتبة روائية يبدأ الفيلم بتوقيعها لكتابها الأحدث وسط احتفاء جماهيري، الثانية هي مارثا (تيلدا سوينتون) مصورة حرب معروفة وناجحة، تعلم إنجريد بالصدفة وأثناء حفل التوقيع أن مارثا تم تشخيصها بسرطان الرحم في مراحل متأخرة وأنها الآن في احدى المستشفيات وحدها، تقنع الصديقة المشتركة انجريد بزيارة مارثا صديقتها القديمة التي باعدت بينهما الحياة، وأنها ستفرح بذلك كثيرًا، وهو ما يحدث، تلتقي مارثا بإنجريد وتقابلها بابتسامة حنونة دون عتاب، ومن هنا، من تلك الصدفة، البذرة الميلودرامية التي تحرك أفلام ألمودوبار تبدأ قصة المرأتين.

تجمع كل من إنجريد ومارثا سنوات من الذكريات، الأحباء المشتركين، والاهتمامات المشتركة، لكن اللقاء الجديد يضعهما في وضع مستحدث من استعادة القصص والحكايات التي فاتت كل منهما في حياة الأخرى، لكن النقطة الأساسية التي تجمعها وتفرقهما في الوقت نفسه هي مكانهما من الموت كمفهوم. عاشت مارثا حياتها العملية كلها في مواجهة مباشرة مع الموت بحكم عملها كمصورة حروب مزروعة على الدوام في مناطق النزاعات، من خلال تلك الحياة طورت مارثا شكل من المصالحة مع الفناء، وتعرفت على أساليب الآخرين في التمسك بالحياة وسط أشباح الموت، بينما تأخذ إنجريد مسافة متخوفة من الموت، تصف كتابها الأخير بأنه محاولة للمصالحة مع الفناء وتعبير عن خوفها الشديد منه حتى من الكلمة نفسها، في التقائهما معا يأخذ الموت كحقيقة حتمية  شكل أكثر رقة وأقل تراجيدية، ويلبس أثواب جديدة، فيرتبط بشكل من الكرامة والرحمة، أو حتى حرية الاختيار، بل ويصبح محرك جديد للصداقة والتقارب الحميمي.

تاريخ من علاقات النساء
«الغرفة المجاورة» ليس أول فيلم يتناول به ألمودوبار الموت كتيمة رئيسية، ربما يتخفى الموت عادة تحت طبقات من الموسيقى والجدالات والزخم البصري، لكنه يحضر بشكل أكثر سحرية وأقل واقعية، في «الغرفة المجاورة» على عكس مثلا فيلم «عودة» volver أكثر أفلامه ارتباطا بالموت، فإن الفناء حالة نهائية لا وجود بعدها، لا وجود لواقعية سحرية تجعل وقعه أقل حدة أو أشباح تعود  للحياة، لكن ذلك لا يعني أنه فيلم أكثر قتامة من أفلامه السابقة على العكس، يتعامل «الغرفة المجاورة» مع موضوعه الرئيسي بخفة ويقلب مدلولاته التقليدية ليقدم شكل بديل من التعاطي مع واحدة من أقسى الحقائق الحياتية، ربما يجعله حتى أكثر شاعرية، لكنها بالطبع شاعرية مرتبطة بشكل من الامتيازات الطبقية والاجتماعية، برفاهية اختيار شكل النهاية، واختيار من يقضيها معنا، ترفض مارثا أن يملي عليها المرض كيف تموت، أو أن يفقد جسدها لون الحياة عندما يغادر العالم، ما يفرق «الغرفة المجاورة» عن أفلام أخرى تتناول الموت الرحيم هو تقبل النهاية بشكل ناعم وأنيق دون انهيارات عاطفية، يصبح الموت نشاط تقوم به صديقتين بحب وتقبل وكأنه إجازة صيفية طويلة.

مشهد من فيلم Persona

الملصق الدعائي لفيلم The Room Next Door

عندما تدعو مارثا انجريد لمشاركتها نهاية الرحلة بعد مقاومة تقبل إنجريد بشروط مارثا، تصبح صحبتها للنهاية، مترقبة نهايتها في الغرفة المجاورة، يصور ألمودوبار بجمالياته المعتادة تعاضد علاقة المرأتين بموضعة وجهيهما سويًا في إطارات ضيقة تجمع ملامحهما في المرآة أو بينما يتشاركا سرير واحد أو يحتضنان بعضهما، ذلك المزج بين الوجوه يعد إشارة لإرث سينمائي/سينيفيلي يعود لأحد أشهر أفلام العلاقات بين النساء: «بيرسونا» persona 1960 لإنجمار بيرجمان، تداخل الأوجه والذي يعد أحد أشهر الصور السينمائية في تاريخها أصبح مرجعية جاهزة، تستدعى ويتم إعادة خلقها في سياقات زمنية ومكانية جديدة، لطالما سحر ألمودوبار بعلاقات النساء مع بعضهما البعض كونها أكثر حميمية وحدة من علاقات الرجال، في الغرفة المجاورة يأخذ الفكرة لأقصى حدودها ليس بمشاركة الحياة بل بتشارك نهايتها.لا يكتفي الفيلم بالانغماس في العلاقة الثنائية بين الصديقتين بل يمتد إلى جيل متسلسل من علاقات النساء، بسرد مارثا شكل علاقتها بابنتها لإنجريد، وهو ما يفرع تيمات الفيلم الى تأثير خيارات النساء العملية على العلاقات الأسرية وهو ما يلمسه الفيلم بشكل مسطح لكي يقفل دائرة تجعل الموت هو المحرك الأول للعلاقات، هو ما يقلص المسافات بين الأحياء وأحبائهم الراحلين.

العالم كمتحف
يصنع ألمودوبار من المكان الاجنبي عنه مساحة لتواصل المرأتين، لكنه أيضا يحول أمريكا ومدنها المزدحمة إلى ما يشبه متحف للفن الحديث، في «الغرفة المجاورة» لا وجود للفوضى، بل عالم منمق من المدن الاختزالية ومساحات الألوان المصمتة تنعكس كذلك في تصميم أزياء الشخصيات. يقدم ألمودوبار عالم مثاليا، وشكل جمالي بحت لا يعبر عن واقع محدد، يصبح فيلمه أقرب لتمثيلات لونية تشكيلية منها إلى تصورات حية عن المدن وساكنيها أو الغرباء عنها، يغرب ذلك الشخصيات عن عالمها ويغربنا كلك عن العالم الحقيقي، تصبح الأحداث وكأنها سابحة في عالم مثالي يشبه الحلم، يعززه شكل الامتياز الطبقي وطبيعة الوظائف والأماكن التي تحتلها الشخصيات من العالم، أمريكا من أعين ألمودوبار ليست إلا استعراض للعمارة الحديثة وحياة الطبقات المثقفة، وهو خيار مثير للتأمل، لكنه يصنع حالة من التجريد تجعل التواصل مع قصة مارثا وإنجريد تواصل ينحي جانبا مبدأ التفاعل أو الانتماء، ويحيلهما إلى بشر مجردين، أو شخصيات سينمائية بشكل أكثر كلاسيكية وأقل مجاراة لأشكال التمثيل المعاصرة والواعية بمتطلبات الرؤية النقدية الحالية.

يدرج ألمودوبار داخل سرديته الرئيسية عن الصداقة والفناء تيمات عن موت العالم نفسه، بوضوح تصريحي لكنه يضفي شكل ساخر وكوميدي على ميلودراما الأثرياء التي ينغمس الفيلم داخلها، يأتي ذلك التعليق لفظيًا من خلال شخصية دميان كاننيجهمام (جون توترو) الحبيب السابق لكل من انجريد ومارثا والذي لا يزال صديقا لانجريد، يبحث دميان في الاحتباس الحراري ويعطي محاضرات شهيرة عن الموضوع، لكنه مؤخرًا أصبح أكثر يأسًا، في شكل معاكس لما تشعر بع مارثا حيال نهايتها، لم يعد دميان يصدق في إمكانية إنقاذ الكوكب من مصيره المحتوم، بل أصبح كتلة ساخرة من الغضب والرفض، يفسد محاضراته بإجابات تنفي إمكانية الفعل أو النجاة،  يصبح فناء الأشخاص امتداد لانتظار فناء العالم، مما يطرح شكل مقابل لتلقي تلك الحتمية، بشكل أكثر رومانسية وأكثر تقبلًا وهدوءًا.

يمكن حتى من خلال ذلك التناول لنهاية العالم استشفاف نقد غير مقصود لشكل محدد من البرجوازية المثقفة وعدم مبالاتها بالعالم من حولها، تحتك كل من مارثا وإنجريد بقضايا العالم من حولها خصوصًا مارثا لكن ذلك الاحتكاك فوقي آت من نساء محميات بقوانين دولية وامتيازات عرقية، تعرضت مارثا لخطر الموت أثناء الحروب لكنها لم تواجهه وجها لوجه أبدًا، مما يطرح إشكالية النظر وتمثيل مآسي الآخرين، يطرح ألمودوبار شكل مسطح لطبيعة المهن والأشكال الحياتية، لكن تلك السطحية تصب في شكل سينمائي مرتفع عن الحياة بشكل عام، ينظر لها من عدسة الميلودراما والأسلوبية stylization وليس من خلال الواقعية الاجتماعية. يستقي الفيلم جزء من شاعريته الرئيسية من اقتباس من داخل اقتباس آخر، من فيلم «الموتى» الذي يقتبس رواية «الموتى» لجيمس جويس، يقتطع الاقتباس من سياقه الأصلي ويصبح لغة سرية داخلية بين الشخصيات التي ترى الموت كخلاص رقيق وعادل، بسقوط الثلج على الكل في شكل رثائي واحتفالي على الحي والميت.

يمكن اعتبار «الغرفة المجاورة» إضافة جديدة لعالم ألمودوبار السينمائي فيما يخص قصص النساء وعلاقاتهم ببعضهن البعض وبالموت والحياة، وكونه فيلمه الأول بلغة غير لغته الأم يضفي عليه مسحة من الغرابة وانفصال السياق المألوف، لكنه يمكنه من العمل مع ممثلات ذوات رهافة تمثيلية وأدائية مثل جوليان مور وتيلدا سوينتون، ويمكنه من استكشاف مساحات تجريدية لتشكيل المدن والشخصيات والتيمات الحياتية الكبرى فيما يبدو كسردية عفا عليها الزمن لكنها دائمًا ما تجد مكانها في أزمنة وأمكنة مختلفة ودائمة التجدد، حتى لو كانت على وشك الفناء.

مشاركة: