استطاع تامر محسن منذ عمله الأول «بدون ذكر أسماء»، بلورة مكانته كمخرج في عالم صناعة المسلسلات المصرية، واستمد أهميته من قدرته على خلق دراما صادقة تنبض بالحيوية نابعة من التفاعلات الإنسانية بين شخوص قد تلتقي بهم في واقع الحياة العادية، ويفجر أزماتهم وصراعاتهم الداخلية والخارجية مما تحمله سماتهم الشخصية من تناقضات وتعقيدات بشرية، ناسجًا حكايات وعلاقات مستوحاة من تفاصيل الحياة العادية.

منذ مسلسل «هذا المساء»، درة أعماله التلفزيونية، والذي عرض في الموسم الرمضاني عام 2017 يمكننا أن نلمح تيمة بدأت ملامحها تتشكل مع هذا المسلسل الأيقوني، ثم تواترت في المسلسلات التي توالت بعده في المواسم الرمضانية اللاحقة (لعبة نيوتن – 2021) ومسلسل الموسم الحالي (قلبي ومفتاحه)، وهي انطلاقه من مؤسسة الزواج كنموذج للعلاقات الإنسانية التي تفيض بالتناقضات والتعقيدات والمشاعر المركبة والرغبات والمصالح المتضاربة، خاصة في مجتمعنا الشرقي بما تشمله من مشاعر مركبة وحواجز العادات والتقاليد والدين، واصطدامها بالأشخاص ورغباتهم وتطلعاتهم وصورتهم عن العلاقة وعن أنفسهم وعن الآخر، فالعلاقة بين الرجل والمرأة معين لا ينضب من الحكايات التي لا تفنى وتستحدث دائمًا مع مرور الزمن وتطوره.

ينطلق تامر محسن من هذه المنظومة المتشابكة إلى تشريح العلاقة بين الرجل والمرأة، ونظرة كل منهما للآخر والرغبة في تغييره أو السيطرة عليه، ثم يخرج منها إلى أطر أوسع تستهدف إسقاط الأقنعة التي يختبئ وراءها الأبطال، فيكشف هشاشة الرجال وضعفهم ومحاولاتهم إخفاء هذه الهشاشة خلف علاقتهم المضطربة بالنساء في حياتهم، سواء بمحاولات السيطرة عليهن، أو البحث عن نموذج نسائي أضعف يبرز قوتهم الواهية، في حين تحاول الشخصيات النسائية في عالمه الفرار من الحصار المفروض عليهن، أوالبحث عن نموذج مختلف عن الرجال في حياتهن، أكثر لينًا ورحابة وثقة فيهن وفي إمكانياتهن وقدراتهن، وكأننا أمام لعبة قط وفأر لا تنتهي.

زيجات مضطربة

يفتتح مسلسل «هذا المساء» هذه التيمة التي بدأت تسيطر على أعمال المخرج تامر محسن كما يعد المثال الواضح والصريح لها، فالعلاقة الزوجية هي فكرته الرئيسية التي تتصدر الخط الدرامي الأساسي والخطوط الفرعية، ويقدم تنويعات عليها من طبقات اجتماعية متباينة، تعكس السمات التي تحدد طبيعة هذه الرابطة بين طرفي المعادلة في كل طبقة ونوعية المشكلات التي تواجهها والمتأثرة بالبيئة التي تحيا فيها.

نلتقي بالبطل الرئيسي أكرم ابن الطبقة المتوسطة، والمتزوج من نائلة المرأة الارستقراطية ابنة الملياردير الذي يعمل أكرم في شركاته، والذي تشعره هذه العلاقة بأنه يرزخ تحت ضغط الارتقاء إلى معايير زوجته وعائلتها وبذل أقصى جهد ممكن لإرضائها ووالدها، ويبرز المخرج هذا العبء الواقع على عاتق بطله من خلال تفصيلة آلام الكتف التي يعاني منها أكرم باستمرار. في حين تتمثل مشكلة نائلة في انطفاء وهج المشاعر بينها وبين زوجها، وتحول العلاقة بينهما إلى روتين الحياة الزوجية التقليدي، ما يجعلها تقرر (وهي هنا كامرأة صاحبة القرار نتيجة لطبقتها المهيمنة) أخذ استراحة من بعضهما يحاولان فيها استعادة شعلة حبهما من جديد.

على طرف النقيض يقدم لنا تامر محسن نموذج من الطبقة الشعبية متمثلاً في علاقة عبلة صاحبة المسمط وطليقها المعلم ضاحي، الذي لم يستطع تقبل فكرة أنها خلعته بسبب ضربه وإهانته المتكررة لها، إخفاءً لعجزه وعدم قدرته على الإنجاب، وهو ما يعتبره أبناء هذه الطبقة عار ونقص في الرجولة.

بين هذين النموذجين المتناقضين يطرح المخرج النموذج التقليدي الذي ينتمي إلى الشريحة الأكبر من المجتمع، الطبقة الوسطى، من خلال شخصية هند، شقيقة أكرم، الأم والزوجة التقليدية التي تولي اهتمامها الأكبر لأطفالها وتعامل زوجها كأنه واحد منهم، في حين تهمل احتياجاته ورغباته كرجل، بينما ينطلق الزوج للبحث عن مغامرات عاطفية عبر الإنترنت مع فتيات أصغر سنًا يعوضن ولو جزءًا مما ينقصه.

ثم يعود المخرج في 2021 ليقدم في مسلسل «لعبة نيوتن» نموذج آخر مختلف، من خلال شخصية هنا وزوجها حازم، اللذان يثيران الفوضى حولها في كل مكان كلما صدر عنهما فعلاً أو رد فعل. علاقة يقودها العند وفقدان الثقة في إمكانيات الآخر، ورغبة حازم المستمية في السيطرة على زوجته في حين تحاول هنا بشتى الطرق إثبات أنها قادرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها حتى وإن أدت إلى كوارث.

نساء متمردات ورجولة هشة

يحاول تامر محسن من خلال التنويعات المختلفة التي يقدمها على منظومة الزواج في أعماله تفكيك العلاقة المرتبكة بين الرجل والمرأة، وإزاحة الستار عن الرجولة المهزومة التي تسعى إلى الاختباء خلف محاولات السيطرة على الآخر أو المراوغة والتمرد، ولو مؤقتًا، على العلاقة التي تبرز هزيمتهم.

فيقع أكرم في «هذا المساء» في غرام عبلة المرأة الشعبية التي لا يضطر لبذل مجهود كبير لإثارة إعجابها بل هي التي تسعى لإسعاده وإرضاءه مثل أغلب النساء اللائي ينتمين إلى هذه الطبقة، ولا يشعر في حضورها بشروخ رجولته ونقصها الذي يشعر به في وجود زوجته الأرستقراطية وعائلتها، بل تمنحه شعورًا بالتفوق والاكتمال من صعب أن يجده في علاقته بنائلة.

وبرغم أننا لا نتعرف على علاقة عبلة وضاحي غير بعد انتهائها، لكننا نعرف أنه كان يحاول مداراة رجولته المكسورة ونقصه بسبب عدم قدرته على الإنجاب في ضربه المتكرر لعبلة وإهانته لها ما يجعلها تلجأ إلى القضاء لخلعه.

بينما يستمد حازم في «لعبة نيوتن» شعوره بالقوة والاكتمال من هشاشة هنا النفسية وخوفها من أبسط الأشياء مثل انقطاع الضوء أو انغلاق باب دورة المياه عليها، وتصوره أنه مصدر الحماية والإنقاذ الوحيد لها، وأنها ستضيع بدونه رغم محاولاتها المستميتة لإثبات العكس له، لذا عندما تتحدى هنا رغبته في عودتها من أمريكا واستمرارها في خطة السفر بدونه، تكون ثورته ليس فقط بسبب خوفه عليها ولكن لأنه أيضًا بسبب فقد الكيان الذي يشعر باكتمال رجولته في وجوده.

في المقابل تسعى الشخصيات النسائية في عالم تامر محسن إلى الفرار من محاولات السيطرة عليها والبحث عن نموذج مغاير للرجل الذي في حياتها، فتغرم عبلة بأكرم الرجل النبيل المهذب، الذي يتعامل معها بلطف ورقة لم تصادفهما مع ضاحي، رغم ما يخبئه هذا اللطف من أنانية واستغلال. وتنشد هنا الخلاص من محاولات سيطرة حازم التي تشعرها بأنها امرأة عاجزة غير قادرة على إدارة أبسط أمور حياتها، فتقرر البقاء في أمريكا وتنفيذ خطة الولادة وحدها لتثبت له أنها قادرة على تحمل المسئولية بدونه.

قلبي ومفتاحه .. حكايات متعثرة

ينتمي أيضًا مسلسل «قلبي ومفتاحه» إلى ذات العالم الذي تبدأ فيه الحكايات من أزمة تمر بها علاقة زوجية، وإن كان ما وعدنا به في الحلقات الأولى والثانية يتغير مساره فجأة ويتشتت بين قصص رومانسية أشبه بالمسلسلات التركي، ومطاردة عصابات لا تؤدي إلى شيء. فينطلق من أزمة تمر بها كثير من الأسر المصرية، خاصة التي تنتمي إلى البيئات الفقيرة والشعبية الذين يجهلون إلى حد كبير بقواعد الشرع التي تنظم الزواج الإسلامي وتحرم رد الزوجة بعد الطلقة الثالثة ما لم تتزوج برجل آخر.

يفتتح المسلسل حلقته الأولى بزوجة (ميار) طُلقت ثلاث مرات ويحاول زوجها (أسعد) ردها متجاهلًا قواعد الشرع التي تستوجب زواجها زواجًا كاملاً بغير نية الطلاق حتى يتمكن من ردها مرة أخرى، في حين تجبر هي على مجاراته حتى لا تخسر ابنها الذي هددها بأخذه منها إن لم تقم بحل هذه المعضلة بمعرفتها ودون أن تعلمه بالتفاصيل.

يبدو لنا (أسعد) في البداية واحد من أبطال تامر محسن أصحاب الرجولة المنكسرة، إذ يختبئ خلف شخصية الرجل الذي يمتلك وفرة في السمات الذكورية، الرجل العصبي العنيف الذي يخشى بطشه أهل بيته وجيرانه ومن يعملون معه، ولكنه يمتلك نقطة ضعف في شخصيته  تتعارض مع صورة الرجل القوي والمخيف وهو خوفه من العقاب الإلهي رغم تجبره، لذا يحترق معرضه بماس كهربائي يظن أن هذا الحريق هو عقابه الإلهي  على محاولاته للتحايل على الشرع والذي يبدو أمامه رجلًا مهزومًا، ما يجعله يرضخ مكرهًا لزواج زوجته برجل ثان.

 لكن سرعان ما تخرج هذه الشخصية من إطار الرجولة الهشة أو المنكسرة التي تصطدم بنقاط ضعفها، لينسحب هذا التناقض على سلوكه العام دون أن يقدم أي نمو أو تطور في شخصية أسعد، الذي ينسى تمامًا أزمته مع طليقته التي تم التأسيس لها على مدار حلقتين ليدخلنا السيناريو في صراعاته الهامشية دون أن تضيف جديدًا إلى الخط الدرامي الرئيسي أو تساعد في تطور الشخصية، سوى أنه ينشغل عن اكتشاف قصة الحب التي تنمو بين محمد وميار.

وحدها شخصية ميار هي التي ينطبق عليها ذات السمات التي تتسم بها الشخصيات النسائية في عالم تامر محسن، فهي المرأة الضعيفة المنكسرة التي تعاني من العيش مع رجل عنيف يحاصرها دائمًا، ويهينها ويخونها ويطلقها لأهون الأسباب، ثم يطالبها بحل الأزمة وإلا انتزع منها ابنها، لذا كان من الطبيعي أن تنجذب لنموذج مغاير تمامًا لشخصية أسعد، رجل مثل محمد الهادئ المسالم، الذي يعاملها برقة واحترام ولا ينفعل عليها مثلما يفعل أسعد رغم تسببها في كسر سيارته.

تصبح ميار هي الشخصية الوحيدة التي تتطور وتصير جزءًا من تيمة تامر محسن المحببة ومن شخصيات عالمه، رغم تعدد الشخصيات والحكيات وتنوعها حتى على مستوى الأجيال، ولكنها تظل شخصيات ساكنة وحكايات منقوصة غير مكتملة النمو.

مشاركة: