“قبل أن تتدخل في سياستنا، تذكر فقط… أننا نعيش ونموت، ولا نتحكم في أي شيء أبعد من ذلك”.

قد تكون هذه العبارة التي ألقتها تودا ماريكو على البحار الإنجليزي جون بلاكثورن في أحد حلقات مسلسل «Shōgun»، هي المفتاح لفهم طبيعة الشخصيات والصراعات التي تدور داخل أروقة البلاط الملكي الياباني؛ فهذا الربان الأوروبي يبدو ضائعًا قبل أن يخطو حتى خارج سفينته، ويضع قدميه على أرضٍ غريبة مخيفة، مليئة بالحكمة واللطف القاتل. فإذا أراد هذا الغريب النجاة بحياته، قبل أن يستل الساموراي سيوف الكاتانا ويطيحوا برقبته، فعليه أن يتدرب على الاستماع دون أن يسمع؛ لأن الموت في هواءها وبحرها وأرضها، يمكن أن يأتي إليه في أي لحظة.

إن التشابكات السياسية والاجتماعية داخل اليابان خلال القرن السابع عشر معقدة وغامضة للغاية؛ ولكن مسلسل  «Shōgun» عمل على تفكيك ثقل التاريخ بشاعرية ساحرة تخفي وراءها مؤامرة تُطبخ على نارٍ هادئة؛ حيث الأعداء في كل مكان والأصدقاء في غير مكان. فإذا نظرت ولم ترَ شيئًا، فعليك بكل بساطة أن تنظر بجدية أكبر.

صراع العاهرات الأربعة

في فيلم «Silence»، المقتبس عن رواية الكاتب الياباني شوساكو إندو، يضعنا المخرج مارتن سكورسيزي في منتصف طريق دون تقديم الكثير من السياقات التاريخية حول الأسباب التي أدت إلى اضطهاد المسيحيين الكاثوليك في اليابان. يبدأ الفيلم بافتتاحية مروعة، حيث يُجبر الكاهن اليسوعي كريستوفاو فيريرا (ليام نيسون) على مشاهدة كل من الرهبان البرتغاليين والكاثوليك اليابانيين وهم يُجبرون على التخلي عن إيمانهم أو مواجهة التعذيب القاسٍ في ينابيع المياه الحارقة على تلال أونزين. خلال هذا المشهد الذي دارت أحداثه عام 1633، يعلق فريرا قائلاً: “لم أعرف اليابان قط عندما كانت بلدًا من النور، لكنني لم أعرفها قط بهذا القدر من الظلام الذي هي عليه الآن”.

إن الفترة التي يشير إليها الأب فيريرا، باعتبارها “زمن النور”، هي النقطة التي تتشكل منها بداية حلقات المسلسل التلفزيوني «Shōgun» المستند إلى رواية الكاتب الأسترالي جيمس كلافيل. في عام 1600 (بداية أحداث المسلسل)، كانت اليابان والبرتغال تربطهما علاقات تجارية قوية باعتبارها أول أول دولة أوروبية تصل إلى الجزر اليابانية. وبجانب الازدهار الاقتصادي، شهدت البلاد أيضًا ازدهارًا لحركات التبشير المسيحي الكاثوليكي – المذهب السائد في البرتغال – والذي تبعه ومارسه مئات الآلاف من اليابانيين، بما في ذلك بعض أقوى المسؤولين في البلاط الملكي.

ولكن بعد بضع سنوات فقط، فرضت الحكومة اليابانية قيودًا قمعية صارمة على الكاثوليك، إلى أن تم حظر ممارسة الكاثوليكية رسميًا عام 1614، وهي الفترة التي استمرت لقرون وعُرفت بعصر “كاكوري كيريشيتان” أو “المسيحيين المختبئين”. ولكن، ما الذي أدى إلى اضطهاد المسيحيين في تلك الفترة؟ ولماذا يعتبر “صمت” سكورسيزي امتدادًا لأحداث “شوغون”؟

إن القمع العنيف الذي تعرض له المسيحيين في اليابان خلال القرن السابع عشر معقد للغاية بحيث لا يمكن تبسيطه في سبب واحد. ولكن، استطاع «Shōgun» تفكيك السياقات التاريخية والأيديولوجيات التي أدت إلى وضع البرتغال في خانة العدو بدلاً من الحليف، وبالتالي تدمير حصان طروادة الذي استخدمه البرتغاليين لدخول اليابان وهو “المسيحية”.

وهذا ما نلمحه في أحداث الحلقة الثانية من المسلسل والتي تحمل اسم “خدم سيدين”، حين يطلب اللورد توراناغا (هيرويوكي سانادا) من بلاكثورن (كوزمو جارفيس) رسم خريطة للعالم. نكتشف خلال المشهد وعلى لسان البحار الإنجليزي، أن البرتغاليين والإسبان قسموا العالم الجديد إلى نصفين (في إشارة لمعاهدة توردسيلاس والتي قسمت بينهما الأراضي غير المستكشفة)، والتي تقع اليابان بموجبها في النصف البرتغالي، وبالتالي فهي ملك لهم، بل ويملكون الحق في استبدال حكامها بآخرين يعتنقون الكاثوليكية.

في هذه اللحظة تحديدًا، يدرك توراناغا أن اليابان في نظر البرتغاليين (الأوروبيين) ليست سوى منجمًا من الموارد يتم استنزافه، وأن قدومهم إلى الساحل لم يكن بغرض التجارة فقط، بل هناك أبعاد سياسية وثقافية وعقائدية. هنا، يقرر توراناغا استغلال كراهية بلاكثورن البروتستانتي المتعصب تجاه البرتغاليين الكاثوليك، لزرع الفتنة بين مجلس الأوصياء على الوريث الملكي، الذي يتبع اثنان من أعضاءه الكاثوليكية. أونو، المحارب المخيف، الذي قاده مرض الجذام إلى أحضان الكنيسة. وكاياما، الرجل الذي لا يسترشد إيمانه بالمسيح إلا بجشعه وطموحه.

ولكن ما حفز غضب توراناغا بصورة أساسية، هو وجود قاعدة عسكرية برتغالية في ماكاو، والتي كانت تستخدم لتهريب الأسلحة وتدريب المرتزقة اليابانيين (رونين)، وتوجيههم لإخماد أي انتفاضات داخلية قد تعكر صفو تجارتهم الرائجة. كل هذه الدلائل، كشفت عن مدى تورط البرتغاليين في الصراعات الأهلية وكذلك تغلغلهم في صناعة القرار داخل البلاط الملكي الياباني. لذا، حرص توراناغا على إبادتهم عقب اعتلائه العرش لاحقًا، خاصةً وأنهم اتخذوا موقفًا محايدًا أثناء صراعه مع اللورد إيشيدو (تاكيهيرو هيرا).

بالعودة إلى أحد مشاهد فيلم «Silence»، يواجه الأب رودريجيز (آندرو جارفيلد) وجهًا لوجه المحقق الياباني إينوي ماساشيجي، الذي كان متورطًا في اضطهاد المسيحيين اليابانيين. يروي إينوي لـ رودريجيز قصة عن منزل كاد أن يُدمر بسبب صراعات “أربعة عاهرات”، قبل أن يتم طردهن جميعًا. ويُشّبه هؤلاء “العاهرات الأربعة” بإمبراطوريات البرتغال وإسبانيا وإنجلترا وهولندا، والتي كانت تتصارع مع بعضها البعض حول حقوق استخراج الثروات من اليابان. ويستكمل المحقق شرحه بأن سياسة الانعزالية المتطرفة في ظل حكم شوغونية توكوغاوا (فترة حكم توراناغا)، كانت بدافع الحد من الطموحات الإمبراطورية الأوروبية، وأن اضطهاد الكاثوليك هو امتداد قاسٍ لهذه السياسة.

يمكننا أن نلحظ أثرًا ممتدًا للمشهد السابق يتردد صداه بين جنبات حلقات المسلسل، حين يقرر توراناغا التبرع بقطعة أرضٍ للبرتغاليين لبناء كنيسة كاثوليكية جديدة، ليفاجيء الأب مارتن ألفيتو (تومي باستو) لاحقًا، بأن قطعة الأرض ملاصقة لأحد بيوت الدعارة. هنا، يُعيد توراناغا تأكيد ديناميكيته في السيطرة على الأب مارتن من خلال جعله يبدو أحمقًا، وكأنه بيدق في لعبة الشطرنج المعقدة الخاصة به. فهذا الرجل (توراناغا) لا يتحكم في الرياح، إنه فقط يدرسها.

إن كل من مسلسل «Shōgun» وفيلم «Silence»، لا يتجنبان رصد الرحلة المعقدة التي مرت بها الكاثوليكية في اليابان. ففي حين يرسم العمل التلفزيوني صورة عن ازدهار المسيحية في اليابان (فترة النور كما أسماها فريرا)، يندفع الفيلم إلى فترة من الخوف والقمع، وهذا ما يجعل شريط سكورسيزي بمثابة تكملة مثالية للمسلسل. وكأنهما قطعتا قماش من نسيج واحد.

أسطورة المنقذ الأبيض

قبل بضع سنوات، عندما صعد صناع فيلم «Green Book» على خشبة المسرح لاستلام جائزة الأوسكار، سادت حالة من الغضب في القاعة، تصاعدت بانسحاب المخرج سبايك لي من الحفل اعتراضًا على فوز فيلم تحدث بطله علانيةً – في أحد المؤتمرات الصحفية – بشكل مسيء عن السود، مرورًا بكاتب السيناريو الذي أطلق سلسلة تغريدات مسيئة للمسلمين، هذا بالإضافة إلى التصوير السطحي للعلاقات العرقية في الفيلم من منظور “المنقذ الأبيض”.

إن أسطورة “المنقذ الأبيض” أو “White Savior”، هى واحدة من الأفكار السامة التي نجحت هوليوود في ترسيخها داخل ذهنية المتلقي على مدار عقود طويلة. فدائمًا ما توجد شخصية بطولية بيضاء مرحب بها لإقحام نفسها في القصص التي تركز على أعراق أخرى، وفي كل وسيط تلاحقه أعيننا نرى منقذًا أبيض حاضرًا لحل مشاكل الملونين أو حتى مساعدتهم على الوصول إلى الخلاص.

من «Dances with Wolves» مرورًا بـ«Avatar»، جميعها نماذج لرجل أبيض ينصهر وسط ثقافة “أصلية” ليضفي عليها طابع المثالية والقيادة. ولكن، أحد أبرز الأمثلة على ترسيخ رواية “المنقذ الأبيض” يمكننا أن نراها في فيلم «The Last Samurai» إنتاج عام 2003، والذي يتقاطع بشكل وثيق مع مسلسل «Shōgun». فعلى الرغم من أن أحداث المسلسل تدور قبل نحو قرنين من الفيلم، إلا أن العملين تنطوي قصتهما على رجل أبيض غير مألوف بالثقافة اليابانية، ينغمس في نمط حياة جديد ويختبر من خلاله عادات غريبة ويتعلم احترام محيطه وتقديره.

هناك أيضًا أوجه تشابه في سياق القصتين تتعلق بالصورة الأكبر للصراع على السلطة. ففي حين يقوم كاتسوموتو (كين واتنباي) بدور ساموراي منشق يقاتل ضد القوى الخبيثة التي تحيط بالإمبراطورية اليابانية في «The Last Samurai»، يقوم اللورد المنبوذ توراناغا بشكل مماثل في «Shōgun» بمواجهة خصم سام آخر يتمتع بنفوذ قوي داخل البلاط الملكي وهو اللورد إيشيدو.

هذه التقاطعات والصلة التي لا يمكن إنكارها ما بين الوسيطين، لا يمكنها إخفاء حقيقة أنهما يتبعان نهجًا مختلفًا في سرد قصتهما. فبينما يتم سرد «The Last Samurai» من منظور ناثان ألجرين (توم كروز)، نرى على الجانب الآخر جون بلاكثورن شخصية ذات ثقل درامي لكنها ليست محور السرد. وبغض النظر عن رحلته الاستكشافية البائسة للإطاحة بالكاثوليك، فإن جوهر المسلسل يدور حول طموحات توراناغا السياسية ورغبته في اقتناص اللقب الياباني الأعلى (شوغون/جنرال)، بالإضافة إلى التفاعلات الماكيافيلية التي لديه مع من حوله.

إن البناء الدقيق والمتقن في «Shōgun» والحرص على جعل الشخصيات اليابانية بمثابة المحرك الأساسي للقصة، هو السبب الرئيسي وراء الأصالة التي يتمتع بها المسلسل. فالأمر لا يقتصر فقط على عائق اللغة (اليابانية) التي اقصت بلاكثورن من المشهد العام لعدم قدرته على استيعابها، بل إن التتابع السردي ساعد أيضًا في التأكيد على فكرة أن النفوذ الأوروبي هو مجرد عامل صغير في اللعبة السياسية الأوسع التي تتكشف. فبدلاً من أن يكون بلاكثورن والبرتغاليون أبطال القصة، فإنهم مجرد بيادق يحركها توراناغا وإيشيدو.

هذا على النقيض تماما مما يفعله «The Last Samurai»، الذي جعل شخصيات يابانية أصيلة مثل كاتسوموتو وأوجيو، أقرب إلى أشباح في ظل سطوة وهيمنة سردية ألجرين. وهذا النهج من البناء النمطي للشخصيات يمكن أن يكون أقرب إلى المصطلح الذي تبناه المخرج سبايك لي، والمعروف باسم “الزنجي السحري” أو “Magical Negro”، وهي شخصية تتسم بالحكمة، كل مهمتها مساعدة الرجل الأبيض على الخروج من المتاعب من خلال التعرف على عيوبه والتغلب عليها، وتعليمه كيف يصبح شخصًا أفضل. وهذا ما فعله كاتسوموتو مع ألجرين خلال الفترة التي قضاها في قرية الساموراي.

لم ينشغل «Shōgun» بهذا النمط الكسول في بناء الشخصيات، بل لعب برشاقة على حبل التناقضات الأخلاقية والمعنوية لهولاء “المحاربين”. وهو أمر مثيرًا للإعجاب بشكل خاص عندما نأخذ في الاعتبار الطريقة التي صورت بها الروايات الغربية اليابان الإقطاعية في كثير من الأحيان على أنها أرض بسيطة للتضحية والشرف كما جاء في مقدمة «The Last Samurai». ولكن عندما تطأ قدمي البحار الإنجليزي على الشاطي الياباني، ندرك أن هؤلاء الرجال متعطشون للدماء، تمامًا كما لو كانوا يتجرعون “الساكي”. وهذا ما تجسده مقولة ماريكو (آنا سواي) لـ بلاكثورن: “لا تنخدع بأدبنا وانحناءاتنا ومتاهات طقوسنا. فرغم كل هذا، قد نكون بعيدين عنك بمسافة كبيرة”.

لقد كان كلافيل نفسه مواطنًا غربيًا انتهى به المطاف في معسكر أسرى ياباني خلال الحرب العالمية الثانية. فكان من الممكن أن يسرد حكايته «Shōgun» بنفس الطريقة التي انتهجها سابقيه، قصة عن الخوف والرهبة الغربية من قانون أخلاق بوشيدو (أخلاقيات محاربي الساموراي). ومع ذلك، فقد أثبت المسلسل التلفزيوني – المأخوذ عن هذه الرواية – أنه أكثر ثراءً وتعقيدًا وأصالةً مما هو عليه الأمر في أغلب المعالجات الهوليوودية.

 

مشاركة: