يحكي الفيلم في جوهره ثلاثة خيوط سردية. أولاً: علاقة “حسن” بكلبه “رامبو”، ثانيًا: التهديد المحتمل بفقدان منزله مع والدته، ثالثًا وعلى مستوى أعمق، يتبين لنا آثار جرح هجر الأب في كل خطوة في حياته.
نرث من أهلنا الطبائع الشخصية مثلما الصفات البيولوجية، وعادة نرث أكثر الصفات اعتيادية وننسى صاحبها الأصلي. ورث “حسن” عن أبيه موتوسيكل، وبعض الشرائط التسجيلية، وندبة نفسية طويلة الأمد.
يدرك الأطفال بعد استشعارهم هجر أحد الأبوين احاسيس مختلفة من الحيرة ويتسائلون: “ماذا فعلت لكي يهجرني أبي؟” كأن الهجر نتاج أفعالهم، أو أن الرحيل هو العقاب المستحق. يستشعرون كمًا هائلًا من الخوف يتجسد في الترقب الدائم للهجر معكرًا صفو كل علاقة إنسانية حميمية بانعدام الثقة في الطرف الثاني. يمسي التهديد كامنًا في احتمالية الحب لأنه إن أحببتك كفاية قد ترحل عني، وقد يؤلمني ذلك.
بنى “حسن” حياته حول آثر الرحيل الذي عانى منه
يحتفظ بمسافة آمنة أو جدار واق يحتمي به متى يسمح لنفسه أن يحب. لا يوضح لنا الفيلم لما أو كيف فقد حبيبته السابقة، لكنها تبقى ملاذه الأخير، إن لم يكن الوحيد -ليس الآمن-. علمًا أن بعضنا يشعر أثر الهجر أننا لا نستحق الحب.
على الجانب الآخر، يسقط هذا الجدار كليًا مع “رامبو” لأن احتمالية الهجر ضئيلة، فيتخذه صديق دون تحفظ أو كلف. يدور معه حوارات طويلة على عكس الحوارات المقتضبة مع باقي الناس. يطلب منه مساعدته في تحضير الفطار، يسأله عن رأيه في الطعام، ويذهب به إلى العمل.” رامبو” هو محور اليوم، قادر على تهوين كل الجدران الرطبة التي تكاد تسقط فوق الرؤوس.
سرعان ما يتهدد هذا الأمان على يد “كارم”، الميكانيكي الذي يسعى لطرده هو وأمه من منزلهما لكي يوسع ورشته مفتعلاً عراك مع “حسن” في منتصف الليل. انتهى العراك بانقباض “رامبو” على “كارم” وعضه لكي يحمي صاحبه. يلقى بضربة قوية على أنفه، ثم تبدأ رحلة البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو.
شبح الوحدة
“جوايا بندهلك .. يا ترى بتسمعني؟”
يبحث “حسن” عن إجابة الآن، لكنه سؤال مؤرق مهما اختلفت صياغته. أما أنا عن نفسي، بحثت وعرفت، وغضبت. لا أعرف أيهما أسوأ، أن تعرف أباك قبل أن يهجرك، أو ألا تعرفه مطلقًا؟ مع ذلك، أحقد قليلاً على “حسن” لأنه حظى بأبيه في عيد ميلاده، بينما رحل أبي بعد ميلادي مباشرة. الغريب أنه رفضني قبل أن يتسنى له معرفتي. في رأيك أيهما أسوأ؟ أن يرفضك أبوك قبل، أو بعد معرفتك؟
تحاوط حسن الأسئلة عن أبيه حتى تعترف له أمه أنه “طفش”. أي غادر بكل بساطة. فينمو في قلبه جوعًا نحو الحب الأبوي والتوجيه المصاحب له. ماذا أرتدي اليوم؟ من أصاحب في المدرسة؟ من أحب من المدرسين؟ ما هي علاقتي بأقاربي؟ هنا ترسي الوحدة خطواتها الأولى في روح الأطفال المهجورين.
على عكس حسن، لم أعرف ماذا فقدت من الأساس، ثم ذهبت إلى المدرسة وسألني أصحابي عن أبي. وعرفت أن شيئًا ما مفقود.
فهمت ما الذي فقدته حين ظهر مدرسي المفضل في الابتدائية، مدرس اللغة العربية. اتخذني ابنة له وكنت تلميذته المفضلة. أتذكر يومًا بعد انتهاء اليوم المدرسي والدروس الخصوصية، تناولنا الغداء سويًا في مطعم بجوار المدرسة، وصارحته أني أريد أن أصبح كاتبة ويقرأ لي الناس المقالات والأشعار. رأيت في عينيه سعادته وفخره بي، ودعى لي أن أحقق حلمي. كانت أفضل وجبة تناولتها على الإطلاق.
تبناني المدرسون واحد تلو الأخر تقديرًا لظروفي العائلية، أو ربما تقديرًا لموهبتي منذ الصغر، لكن “حسن” لم يجد متطوع أبوي من العائلة أو خارجها. ينسحب تدريجيا من كل الدوائر الاجتماعية، فلا نرى جار أو صديق من الذي حاوطنه بالأسئلة. وهكذا، أصبح “رامبو” هو الصديق الوحيد.

لقطة من فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»
كيف تقرأ الوحدة في المشهد؟
يبرز صناع الفيلم حالة الوحدة التي يمر بها البطل عبر توظيف الحوار السينمائي . يظهر ذلك من خلال حوار “حسن” مع الآخرين بعبارات قصيرة مباشرة، في مقابل استرساله مع “رامبو” في الحديث. كما يتجلى الجانب العفوي في شخصيته أثناء تعامله على سجيته معه . أبرز الممثل عصام عمر هذا التناقض بحرفية بالغة في بطولته الروائية الأولى. منذ بداية الفيلم وهما يلعبان سويا بلعبة رامبو المفضلة، مفصحًا له عن ذاته دون ترقب ويستمر حتى النهاية.
من الشائع أن يتجنب الطفل بعد تعرضه للهجر كل الصداقات، خوفًا من أن يحكم أو يشفق عليه الآخرون بسبب وضعه العائلي. هكذا، يستبطن أي طفل، مثلما فعلنا أنا و”حسن”، شعورًا دفينًا بالذنب والخجل، معتقدين أن غياب والدنا يعكس شيئاً خاطئاً متأصلاً فينا، وننغلق على أنفسنا.
أحسن صناع العمل في تصوير إعادة فتح هذا الجرح حين تواجه الأسرة تهديد فقدان المنزل، وينتقل أثره في حياة “حسن” اليومية تلقائيا بداية من الصورة الذي شطب منها وجه أبيه، والشرائط المسجلة التي يفشل في استرجاعها كلها، وارتباكه تلقائيا حين يسمع أول تسجيل وإغلاقه فورًا. يفتح حسن التسجيل لاحقًا ويسمعه مرة ومرتين وثلاثًا، ويعيد سماع الأغنية المفضلة لأبيه.
“كل عام ومواسم عدو ..وشجر الليمون دبلان على أرضه
وفينك.. أنا من غيرك .. أنا مش عاقل ولا مجنون
أنا مطحون والدنيا دي رحاية”
تطرح أغنية ‘شجر الليمون’ السؤال الذي يتجرأ “حسن” عليه، وتبوح خلسة بمشاعره بين الخوف والتيه.
أوقات أسأل أنا أيضًا، فينك؟ بالرغم من معرفة إجابتي.
كيف تقرأ الهزيمة في المشهد؟
يُصعب الاستدلال على الهزيمة بسهولة لأن إيقاع الفيلم وازن بين الشعور بقلة الحيلة أمام المأزق الذي تورطت فيه الأسرة، وبين الدفء والأوقات السعيدة في صداقة “رامبو” و”حسن”. حرص المخرج على التقاط الجوانب المفرحة وتوزيعها على مدار القصة لكي لا يُحطم المشاهد معنويًا، ولا يفرض عليه الحزن عنوة. يلتقط الأوقات الحميمية في علاقة الشخص بأليفه، الأكل معا، مشاهدة الأفلام، الاحتفال بعيد الميلاد، ويلتقط الأوقات الموترة حين يمرض” رامبو” ونعجز عن علاجه وحمايته.
لا تختلف ديناميكا السلطة في الحارة عن خارجها. ينهش “كارم” عظام “حسن” وأمه كما يفتك الكلب الشرس خصمه في حلبة الرهانات الشعبية، نفس الحلبة تدعو “رامبو” لكي يكن له مأوى من بطش “كارم”. فينعكس التشابه بين واقع الكلاب البلدي والناس من الطبقات الدنيا -كلاهما يقطن الأقفاص مجبورين على التنافس حد النجاة- في قلة حيلة “حسن” و”رامبو” في إيجاد مأوى لهم.
تكمن ذروة الفيلم في مشهد واحد جمع بين اللعب والأذى حين يجد “حسن” ملجأ حيوانات لـ”رامبو” بعيدًا عن مزارع الإتجار والممارسات الشرسة دون أن يدرك الفخ الذي رُسم له. شارك “علي” زميل “حسن” في العمل وجاره موقع الملجأ مع كارم، فتبعه وحاول تصفية “رامبو” وهو يلعب مع الكلاب الأخرى، ويتباهي بتصوير فعلته.
يجلس في غرفة الانتظار حرا لكنه لا يختلف عن النسناس الحبيس.
ظل “حسن” يتلون بين الأزرق الفاتح والداكن على مدار الثلثي الأول والثاني في الفيلم، تارةً سماوي آملا في الهروب هو أسرته الصغيرة وترك كل شيء وراءهم، وتارةً كحلي يعكس حزنه وآلامه حتى يتسلل الغضب مثلما يتسلل اللون الأحمر على الشاشة. يتخلى عن زرقيته باستيلاء “كارم” على منزله وتشريد أمه.
الأحمر هو لون الدم، الغضب، الانتقام.
يسيطر الأحمر على الثلث الأخير من الفيلم. فنودع “رامبو” في خلفية حمراء، وتكون الذاكرة هي الدرع الأخير الذي يتكئ عليه “حسن” طالبًا من “رامبو” ألا ينساه أبدًا. ثم يرتدي بلوفره الأحمر ويشعل سيارة “كارم” بالوقود والنار ساعيا لنيل العين بالعين.
أحيانًا تهزمنا المدينة
“وكل شيء بينسرق مني.. العمر من الأيام والضي من النني”
يرحل الأب عن الأسرة، ينسرق الأمان من البيت، ثم الكلب، ويُفقد البيت.
يقدم الفيلم قراءة متعمقة عن وضع الطبقة الاجتماعية التي تنتمي لها الأسرة. نرى في البداية حدودهم المادية الدنيا واعتماد الأسرة الكلي على مرتب “حسن” كعامل أمن لشركة ما في منطقة راقية. يتنقل “حسن” من شقة ضيقة وحواري صاخبة إلى طرق برحة ومنزل ذي سقف وارف. يعمق التناقض الصراع الطبقي بين منشأ حسن ومحيطه اليومي.
تتشبث الأم بعقد المنزل البالي لكنه لن يحميهم مطولا أمام عضلات الفتوة. عادة لا يلجأ أبناء هذه الطبقة إلى القانون ليس لأنهم جهلة عنه، بل علما أنه لن يحميهم. مع ذلك، قد حاولت اللجوء إلى المحامي واتباع العرف، لكن ينتهي بهم الحال مشردين.. تتكئ الأم على “حسن”، فوق هضبة تطل على مشاريع سكنية فاخرة بعض الشيء. ويحاوطهم الكثير من الكلاب، قد تلتهمهم أفواه المدينة إذ خطوا إلى ضواحيها.
يعتمد المخرج في فيلمه الروائي الأول على التناقضات ليبرز تلك الصراعات بصريًا دون فرضها لغويًا، مستغلاً أدواته الإخراجية بأفضل شكل. كما يرسي تعاطفًا كبيرًا مع الحيوانات الأليفة والمشردين الذين نراهم كل يوم.
مقالة مذهلة!