اعتاد برنامج «بانوراما الفيلم الأوروبي» كل عام أن يختص بعض المحافظات خارج القاهرة بعرض مجموعة أفلام وقع اختيار مبرمجي البانوراما عليها فيما يشبه العروض الخاصة – خارج الجدول الرسمي – والتي تعرض في المحافظات المختارة فقط ولا تعرض خارجها.
اختصّت البانوراما هذا العام محافظة الإسكندرية بعروض لثلاثة أفلام، عرضت تباعًا في مقر جيزويت الإسكندرية، وهي بترتيب العرض: «ليندا تريد دجاجًا» Chicken For Linda، و«مائة وأربعة» One Hundred Four، و«جوسيب» Josep.
«مائة وأربعة».. كيف تفسد مادة وثائقية جيدة؟
«مائة وأربعة» أو One Hundred Four هو عدد الناجين من قارب الهجرة غير الشرعية عبر المغامرة التي يرعى الفيلم توثيقها. الفيلم من إخراج المخرج الألماني جوناثان شورنيج، وينتمي إلى تصنيف الأفلام الوثائقية لسينما الواقع، حيث يفترض أن يترك صانع الفيلم كامل الحرية للكاميرا لتصوير الحياة الطبيعية مع تدخل طفيف أحيانًا في الأحداث أو مجرياتها أو حديث الأبطال – أو دونه. يصوّر الفيلم عملية إنقاذ السفينة الألمانية “إليانورا” لمائة وأربعة من المهاجرين الشرعيين من السودان ومصر وجيبوتي، جمعهم حظهم العثر في قارب مطاطي فرغ من هوائه، وتداعت جوانبه وأوشك على الغرق لولا مرور السفينة. قرر طاقم السفينة إرسال زورقها البخاري السريع حتى القارب المطاطي لتبدأ عملية ترحيل راكبيه مرة تلو الأخرى، في رحلات متتالية وصلت حتى عشر رحلات من وإلى السفينة.
كانت الرحلة مثيرة للترقّب حقًا في البداية وفي بعض المشاهد على طول الفيلم، ويعود هذا بالطبع لأهمية الحدث ورغبة المتفرج في التعرف على تفاصيل المغامرة والوصول إلى إجابة نهائية وهل ستتم عملية الإنقاذ على خير أم لا! امتلك المخرج مادة جيدة مشوّقة وحدث مهم وأفسدها بطريقة العرض. انقسمت الشاشة إلى 6 مربعات على طول مدة الفيلم وحتى قبل دقيقتين من نهايته، ثبّت المخرج كاميرات متعددة في قمرة الكابتن، مقدمة السفينة، مقدمة زورق الإنقاذ، مؤخرته، مرساته، مع كاميرا متحركة في زورق النجاة. هكذا كان الحال: تجلس أمام الشاشة لترى قسمًا صغيرًا جدًا منها تتابع عبره حديث كابتن السفينة الذي يتدخل في الحدث بأوامر وتعليمات للضابطة على زورق النجاة، ثم قسمًا صغيرًا آخر لا ترى فيه على طول الفيلم إلا امتداد البحر أمامك وهي نتيجة مادة الكاميرا المثبتة على مقدمة السفينة، ثم ترى امتداد البحر أيضًا خلف السفينة في كادر ضيق آخر، ثم ترى علم زورق النجاة يرفرف على مرساة الزورق ويحتل نصف شاشة الكادر الضيق الرابع فيما يحتل نصفه الآخر قطرات الماء التي حجبت رؤية بقية الكادر، ثم الكادر الخامس مظلم فلا تدرك أين وضعت هذه الكاميرا، وأخيرا الكادر السادس والأخير، في منتصف الشاشة بالأسفل، هنا تتابع ما يجري حقًا من عملية الإنقاذ، الحدث المهم الذي تحدثنا عنه.
تظلّ طوال الفيلم مضطرًا لمتابعة هذا الكادر الصغير والضيق لتتعرّف على الأحداث، بينما تُشغل باقي الكادرات مساحة الشاشة العريضة دون تقديم أي إضافة حقيقية للقصة. تظلّ الأخبار والأصوات في الهامش، وكان يمكن استغلالها بشكل أفضل لدعم التجربة الإخراجية المبتكرة ورؤية المخرج الفنية، التي أراد عرضها بالتوالي في كادر هامشي أعلى الشاشة.
تحدثنا عن تكرار رحلات الإنقاذ من وإلى السفينة، عشر مرات، مع أحداث بالكاد مهمة في رحلة منهم أو اثنتين. لم يتدخل المخرج في عرض مادته ولو بالمونتاج، نفس الحركة ونفس الرحلة ونفس الرجال الملتاعين ونفس الحوار.
نظل في تلك المتاهة حتى يظهر حدث مهم باقتراب خفر سواحل ليبيا في محاولة لمنع إنقاذ المهاجرين، فيحذرهم قائدها بالابتعاد احترامًا لقوانين الإبحار في المياه الدولية، هذا حدث مهم آخر عليك أن تتابعه عبر الكادر السفلي وحده!
ينتهي الفيلم بإنقاذ جميع من كانوا على متن القارب المطاطي، ويتسع الكادر أخيرًا، وكأنما في إشارة بدائية مبتذلة إلى حرية الناجين، ليحكي في دقائق معدودة وعن طريق بعض المشاهد المبتورة والكتابة على الشاشة عن رفض ميناء مالطا وميناء دولة إيطاليا استقبال السفينة. يبقى الطاقم بصحبة الناجين على السفينة لستة أيام في انتظار صدور قرار سياسي يسمح للناجين بدخول الأراضي الإيطالية، مشاهد متتابعة مقطومة لعاصفة شديدة، ثم مشهد غناء فلكلوري للناجين، ثم صعودهم واحدًا تلو الآخر إلى رصيف ميناء إيطاليا بعد السماح لهم بدخول أراضيها.
أفسد المخرج مادته الجيدة وأفلت فرصة المادة الأهم في تسجيل يوميات الناجين على متن الباخرة مثلًا في الستة أيام الطوال، وانتهى الفيلم وغاية ما وصلت إليه هو أن السفينة قد نجحت في مغامرتها بإنقاذ المهاجرين، معلومة قد تصل إليها من نبذة الفيلم دون الحاجة لعرضه.
«ليندا تريد دجاجًا» .. من تفرقّهم ظروف الحياة، تجمعهم دجاجة
ينتمي الفيلم إلى تصنيف أفلام التحريك Animation، وهو فيلم فرنسي من إخراج سيباستيان لودنباخ وكيارا مالطا. تتميّز رسوم الشخصيات والكادرات بطبعها الكروكي، فبدت أشبه بالرسوم التي يصنعها المخرجون قبل تصوير الأفلام والتي يطلق عليها اصطلاحًا ” الستوري بورد” storyboard كتلك الرسوم المنتشرة مثلًا لمشاهد فيلم «المومياء» التي رسمها المخرج شادي عبد السلام بنفسه قبل بداية تصوير الفيلم والتي تتطابق تقريبًا مع مشاهد فيلم «المومياء» نفسه بعد تصويره.
يبدأ الفيلم بكادر بسيط لفتاة صغيرة تجلس على كرسي الأطفال، فيما يحاول والدها إطعامها، يتدخل صوت الأم في المشهد ثم يختفي صوت الأب فجأة، نسمع بعدها صرخات الأم ونشاهد بكاء الطفلة. رحل الأب في نوبة مرض مفاجئ.
نعود بعدها لنجد الفتاة “ليندا” في عمر العاشرة تجري وتركض في البيت، فيما تحاول أمها العاملة أن تعتني بها وتحتفظ بعملها في نفس الوقت. تطلب ليندا أن تعيرها أمها خاتمها لترتديه قليلًا، وبعد إلحاح توافق الأم. قبل أن تذهب للمدرسة تضعه الفتاة على طاولة المنزل جوار قطها الأليف وتغادر. حين تعود الأم وتبحث عن الخاتم فلا تجده تتهم ليندا، فلا بدّ أنها قد خالفت أوامرها وذهبت به إلى المدرسة، وربما أيضًا قد استبدلته بتلك الطاقية الجديدة التي تراها على رأسها لأول مرّة.
بعد شجار وعناد ورفض الأم تصديق الفتاة التي تصرخ فجأة فتصفعها الأم وتقرر تأدبيها بتركها لدى خالتها لهذه الليلة فيما تقضي بعض الوقت مع أصدقائها للترويح عن نفسها. تعود الام لتغيّر ملابسها فتجد القط يتلوى ثم ينصرف تاركًا لها على أرض المطبخ برازًا لامعًا، تقترب الأم فتجد بداخله الخاتم.
تهرع الأم لمنزل أختها لتعتذر لابنتها. أما عن كفّارة الخطأ، فقد طلبت “ليندا” دجاجًا بالفلفل الرومي، كذلك الذي اعتاد أبيها الراحل أن يصنعه. بسيطة! لكن اليوم في الواقع يوم اضراب في مدينتهما الفرنسية التي يطالب سكانها بأجور أعلى وضرائب أقل، وعليه فكل الدكاكين والمحلات مغلقة ولا سبيل لشراء دجاجة. بعد رحلة طويلة كوميدية ومصاعب، ينتهي الأمر بالأم لسرقة دجاجة حية من أحد المزارع وتنتقل هي و”ليندا” بطول المدينة وعرضها بحثًا عمّن يقتلها؛ الدجاجة، لصنع الطبخة.
تتميّز ألوان الفيلم كمحتواه وقصّته بالخفة، عالج الرسامون ملامح الأبطال غير الدقيقة عبر الرسم الكروكي، بتمييز لون لكل شخصية؛ في حين لوّنت شخصية “ليندا” من رأسها لأخمص قدميها بالأصفر، نعلم أن أمها هي ذلك الخيال برتقالي اللون في الكادرات البعيدة، ومَن تلك التي تطل من أعلى البناية في كادر واسع؟ إن كان لونها وردي فهي بالتأكيد خالة “ليندا”، وهكذا.
في لمحة طريفة من حدث يبدو عاديا وطلب بسيط نتعرف على أبطال الفيلم الذين يجتمعون من كل مكان مرافقين الأم وابنتها، ناسين كل الخلافات حين تحتدم الأزمة، متآزرين لصنع المعجزة… طبق الدجاج بالفلفل.
«جوسيب»… أفلام التحريك الجادة، وضرورة صفة التعريف
ينتمي هذا الفيلم أيضًا إلى تصنيف أفلام التحريك، وهو إنتاج مشترك بين إسبانيا وفرنسا وبلجيكا، من إخراج رسام أفلام التحريك الشهير أورويل. يحكي الفيلم قصة حقيقية، وهي سيرة حياة رسام الكاريكاتير الثوري الكاتالوني “جوسيب بارتولي”، وذلك إبان هروبه من إسبانيا خلال فترة الحرب الأهلية الإسبانية بعد الحرب العالمية الثانية. ينضم جوسيب إلى عدد من المواطنين الفارين من الحرب الأهلية والذين يصلون إلى فرنسا طلبًا للجوء والدعم، لكنهم يفاجئون بحبسهم داخل معتقل على أرض جرداء تحيط به الأسلاك ويحرسه جنود فرنسيون وبعض الأفارقة من دول تحكمها تركيا. يعاني الفارين في سجنهم كما المعتقلين من الحراس الغلاظ وقلة الغذاء والدواء، تأكلهم الأمراض أحياء ويتبول الحراس على قبور من هلكوا.
يتعاطف الجندي الفرنسي “سيرج” مع جوسيب فيمنحه قلمًا وورق حين يكتشف موهبته في الرسم، بل إنه يساعده في البحث عن خطيبته في فرنسا، والتي فرّت قبله وربما انتهى بها الأمر في معتقل آخر أو مستشفى ربما.
تحكي القصة على لسان الجندي سيرج بعد أن امتدّ به العمر واضطرت ابنته أن تترك حفيده معه ليعتني به حتى عودة ممرضته. يقصّ الجندي السابق على حفيده حكاية “بارتولي” من اليوم الأول الذي رآه فيه داخل المعتقل، مرورًا بترتيبه لهروب السجين ونهاية برحيل الرسام إلى المكسيك وتعرّفه إلى حب عمره “فريدا كاهلو” الرسامة المكسيكية السيريالية الشهيرة.
تُعرّف هذه النوعية من الأفلام بين محبيها العرب بـ “أفلام التحريك الجادّة”، نظرًا لأن هذا النوع من الفن لم يصل بعد إلى العالم العربي بالجودة أو الكثرة التي تُغني عن استخدام هذا التوصيف، حيث تقتصر أغلب أعمال التحريك على المسلسلات الكوميدية ذات المحتوى الذي يعني بالتسلية أولًا أو تلك الموجهة للأطفال. في حين تتميّز الأفلام تحت هذا التصنيف بمميزات أثيرة للتعبير عن الأحداث أو المشاعر بصيغة فنّية مذهلة.
نجد مثلًا في «جوسيب» هذا المشهد الذي يحكي عن أهوال المعتقل، حيث يطمع الجندي الفرنسي في إحدى فتيات المعسكر ويقرر الاعتداء عليها ذات ليلة، وفيما يمرّ جوسيب بالجوار يستطيع سماع صرخات الفتاة، فيرتعش ويتكوّر إشارة إلى عجزه عن التدخّل، وحين يحاول استراق النظر يجد الحارس الفرنسي الغليظ واقفا بباب الخيمة يحمي فِعلة صديقه، فترتفع أذنا الرجل السمين أمامك على الشاشة، ويتسطح أنفه وتجد وجهه قد صار وجه خنزير. هكذا ببساطة تعبيرية فنّية مذهلة، دون حوار أو نصوص أو سفسطة.
فاز الفيلم بأفضل فيلم في قائمة جوائز سيزار في فرنسا لعام 2021، وأفضل فيلم رسوم متحركة في جوائز الفيلم الأوروبي لعام 2020.