لكي تعرف كاتبًا عن كثب، لا بد أن تعرف حكايته أولًا. لا قراءة لأعماله كافية، ولا تحليل وتأويل نصوصه يغنيك أبدًا عن خبرته الشخصية. حافظ نجيب محفوظ على مساحة آمنة له من نبوغه الأدبي والفلسفي، مساحة ليعيش بها حياة مألوفة في خصوصية، فلا نجد له تاريخًا حياتيًا مفصلًا ولا سيرة ذاتية صريحة وسط أعماله الأدبية.

أبحث عن نجيب، الفتى الذي نشر أول مقال له في عمر الثالثة والعشرين (وهو عمري وأنا أكتب مقالي عنه)، الفتى الذي واجه صراع يقع فيه كل فنان وكاتب وأي مبدع، بين الحس الإبداعي الذي يتزايد مع كل خفقة، وبين شغفه بالعلم والمعرفة. أؤمن أن لدى كل إنسان حس إبداعي كامن بداخله، بعضنا يستطيع تفاديه دون تأنيب ضمير، والبعض الآخر -أمثالنا- يكرس عمره له. في عمر الخامسة والعشرين، ومن حسن حظنا، حسم نجيب صراعه لصالح الأدب.

لا زلت أخوض صراعي المماثل ما بين الأدب والعلاج النفسي، ففي الصباح أذهب لعملي كأخصائية نفسية مدرسية أحرص على دمج الأطفال ذوي الإعاقات الذهنية والاضطرابات النفسية داخل فصولهم وخارجها، ثم أعود لمنزلي بحلول الخامسة. أطبخ وارتاح قليلاً إن حالفني الحظ، ثم أبدأ في الكتابة. أعمل على الترجمات في يوم الجمعة، وأذهب لورشة كتابة القصة القصيرة يوم السبت… أتساءل عما إذا ستتوازن كفتي ميزاني أبدًا، أو ترجح كفة على الآخرى؟

تعلمت ألا أتعجل الإجابة، وأن أدع بابي مفتوحًا لتجدني. أقول لنفسي إن أهم ما يميز أعمال نجيب محفوظ، بصفته أديب عالمي، هو تناوله للفلسفات العميقة المركبة بلغة الشارع البسيطة. قد يعطيني علم النفس هذه الميزة في كتابتي.

الكل أمام القدر يرتجف

على الرغم من موهبة نجيب محفوظ وإخلاصه، مع الحرص الدائم على النمو، إلا أنه لم يتفادَ خوفه المصيري من الفشل. فلدى كل مبدع غول يُدعى الفشل، وآخر يُدعى الرداءة. يبدأ متأخرًا (وفقًا لاعتقاده الشخصي)، مع أن الخامسة وعشرين ليس متأخرًا أبدًا، لكن نجيب لا يدري أنه سيحيا طويلا، فقط يعلم أنه لم يدرس الأدب، ولم يقرأ كثيرًا خارج حدود الفكر والعلم، ولديه وظيفة تطعمه وتكسوه لا يستطيع تركها. من الصعب تخيل كاتب بموهبته خائف لهذا الحد، لكن خطواته المهزوزة لا تدل إلا على شجاعته. إنه يجازف، مع قناعة راسخة أننا وُهبنا حياة واحدة فقط.

لذا يقرر التوفيق بين الوظيفة والكتابة، فتصبح الوظيفة هي مرمى الأمان، الوسادة التي قد تحمي عنقه إن ارتطم أرضًا. ومع الوقت، أصبحت الوظيفة محل أكل عيش، ومصدر إلهام لأحداث وشخصيات مستقبلية أشكال وألوان؛ يُشكّلهم أقرب ما يكون لنفسه، أو أبعد ما يكون عنهم.

يخطو الشاب النجيب شارعًا لم يُمهد بعد، رصيف لم يُرصف تكسوه الوحدة والحيرة. هو «كمال» الذي يريد الالتحاق بكلية المعلمين العليا في مقابل كل من التحق بالحقوق والطب والتجارة، في مقابل سخط أبيه وحيرة أمه وسخرية أصدقائه. وأنا مثله؛ لم يختلف سخط أمي كثيرًا عن «السيد عبدالجواد» حين رفضت دراسة الألسن، والحقوق باللغة الإنجليزية، أو البيزنس.

رأى نجيب محفوظ الفجوة بين الواقع والخيال

كنا دوما بحاجة إلى أعمال مصرية توثق تراث حوارينا وشوارعنا، أو تحكي من نحن، ماذا نأكل ونلبس، كيف نتكلم ولما نتعارك، كيف نتسلى، نحزن، أو نحيا.. متأثرًا بالحواري الجمالية، قرر نجيب أن يفعل ما فعله أجدادنا على جدران المعابد: التوثيق.

كرس أربعة وسبعين عاما للكتابة، وآمن في باطنه بكل ما روى علينا. رأينا كل ما رأت عيناه، وعايشنا معه رحلة حياته وتطوره على المستوى الإنساني والفكري. ببساطة، شهدناه ينمو كما شَهد هو نمونا معه، ووثَقُهَ. صحيح أن أعماله الأولى لم تلقَ الصيت التي تستحقه، وأهمله النقاد ولم يلتفت إليه المخرجون السينمائيون إلا لاحقًا، مما سرب إليه الشكوك حول جودة تلك الأعمال، لكنه حافظ على إيمانه ولم يهجر قلمه.

بدأ بكتابة القصص ونشرها في صيغة مقالات بالجرائد منذ 1932، حينها لم يكترث أحد بالمنهج الواقعي، وهو النهج الذي تشبث به نجيب لعقود (حوالي عقدين ونصف). وظل “رجل الرواية” هو اللقب الذي يكلل به نفسه. ينصر الرواية في مقابل السرد القصصي والمسرح، حتى بالرغم من التشابه البنائي بين القصة والرواية إلا أنه في البداية لم يكتب مجموعاته القصصية عن اقتناع، بل تسليمًا لنصائح ناشره عبدالحميد جودة. فخرج عمل «همس الجنون» إلى النور في 1948. كتب «دنيا الله» ثاني مجموعة قصصية له في 1963، لكنها الأولى التي تُكتب دون أي ضغوط خارجية. لا شيء يحررك من حاجة مسيطرة عليك إلا الكتابة، لذلك كتب نجيب عن الموت حتى ظن أنه انتصر عليه.

الأمور تجد طريقها لنا صدفةً

لم يلوح بنظره إلى السينما قبل مقابلة المخرج صلاح أبو سيف في 1947، وقد علمه صلاح كتابة السيناريو من الألف إلى الياء.

“بدأ يطلب مني حاجة، حاجة، مثلا يقولي موضوع عنتر وعبلة كذا أو كذا، اكتبه لنا في عشر صفحات. أكتب القصة، أذهب لتسليمها وأظن أن مهمتي انتهت، يقرأها، يوافقون، وإذا به يقول لي، لا.. نحن لم نبدأ من بعد. هذه فكرة الموضوع، نريد تحويله إلى سيناريو، تخيل الفيلم، أي نقطة سنبدأ بها؟ وبدأ يشرح لي وأنا أطبق عمليًا. بعد المعالجة، علمني تقسيم المناظر، وبعد أن قرأ النتيجة أهداني كتبًا في فن السينما، واشتريت أنا بعض الكتب الآخرى.. حقيقة تعلمت السيناريو على يدي صلاح أبو سيف.”

نجحت سيناريوهاته السينمائية رغم من اعتراضه المبدئي حول كتابة السيناريو. لا يزال رجل الرواية رجلًا مستقلًا، يفضل أن يكون الربان الوحيد لسفينته، ذلك بعكس العمل السينمائي الذي تحتم طبيعته الإنتاج الجماعي. عمل باندماج على السيناريوهات خلال الفترة التي تلت الثلاثية، ويطلق عليها سنوات “اليأس الأدبي”. ومع الوقت والتفرغ، تعاون مع مخرجين مختلفين، ما أتاح لنا مشاهدة عشرات الأفلام سواء كانت من تأليفه مباشرة أو مقتبسة عن أعماله الروائية والقصصية.

أتفهم لذة الفردية لربان السفينة حين يتولى قيادة دَفَّته، إلا أني اختلف مع نجيب في استقلاليته المطلقة. أكتب لثمانِ سنوات الآن، فقط قررت امتهان الكتابة في يونيه الماضي، وأقدمت على حضور ورش الكتابة ومشاركة نصوصي مع معلّمي وأصدقائي -القراء منهم والكتاب والمحررين-. يعد ثاني أمتع جزء لي بعملية الكتابة هو الاستماع إلى آرائهم، والتأمل في نصي بأعينهم. عادةً ما اقتنع ببعض الاقتراحات وأنفذها مثلما يحدث في تلك المقالة الآن.

نصحني صديقي المحرر ألا أختبئ خلف ستار نجيب محفوظ، ونصحني صديقي الآخر أن أضع نفسي بسيرته دون أن أطغى عليه، أما صديقي الأخير يطلب مني ألا أختبئ في المطلق.

عين على السينما، وعين على الأدب؟

أنتجت أول رواية له، رواية بداية ونهاية في 1960 من إخراج  صلاح أبو سيف بشكل أقرب إلى المعجزة؛ لأن معظم الصناع وجدوا رواياته أصعب من أن تُقتبس. تزايد انتباه المخرجين حول مجموعاته القصصية لسهولة تناولها سينمائيًا؛ مثلا تحولت قصته القصيرة «الشيطان يعظ» بعد ثلاثة سنوات من نشرها إلى فيلم يحمل نفس الاسم من إخراج أشرف فهمي في 1981، ثم أحيا قصة «زيارة» من مجموعة «خمارة القط الأسود» في فيلم «الخادمة». وأخرج حسام الدين مصطفى فيلم «وكالة البلح» عام 1983 عن قصة «أهل الهوى»، تلاها تحول قصة من  مجموعة «دنيا الله» إلى فيلم «عسل الحب المر» من إخراج حسن الإمام، والقصة الأولى من فيلم «3 قصص» عام 1968. كما اقتبس عاطف الطيب «الحب فوق هضبة الهرم» في فيلمه الصادر 1986.

لقطة من «الحب فوق هضبة الهرم»

راجت الشائعات أنه لم يرضَ تمامًا عن النسخ السينمائية لأعماله، وأنه استاء لضيق أفق المخرجين واهتمامهم بالمعنى السطحي في تجاهل -قد يكون عفوي أو متعمد-، لأمثولة النص بين طيات الأحداث. مع ذلك، لم يعترض كليًا على الاقتباسات السينمائية، وعمل عليها أحيانًا كسيناريست بالتوازي مع فريق الكتابة.

يثني في إحدى اللقاءات التلفزيونية على المخرج أشرف فهمي لتناوله المعاني الحقيقية للنص الأصلي، خاصةً في فيلم «وصمة عار» المقتبس عن رواية «الطريق». لم يستاء نجيب من الرؤي التي رسمها مخرجين رواياته وقصصه بالعكس، كان ممتنًا لهم لأنهم أعادوها للحياة وشاركوه هدفه التوثيقي. بذلك، أضحى نجيب وكل القائمين على إعادة إنتاج نصوصه سينمائيًا شبه مؤرخين لتراث الحقبات المختلفة. اتخذ الأدب والسينما كطرق معالجة للتاريخ.

كما أننا لا نجد في الأفلام التي ألفها، أو الأعمال المقتبسة، ذلك الصراع الذي خاضه مع اللغة المكتوبة. الأفلام غير مُحملة بكل صراعات الرواية، فلا نجد فيها ذلك الصراع الذي خاضه مع اللغة. أتصور أنه شعر بالوحدة حتى في مهنته الأحب إلى قلبه، لأن الحكايات التي يرويها لم يكن لها مثيل أو نموذج سابق يحتذى به.. هو من أوائل الحرافيش الذي سردوا حكاوي قهاوي الحسين أو الأزهر، فغلبته لغته القرآنية في الحوار بين الشخصيات حين سردها في أولى رواياته. كيف لاثنين ‘عربجية’ التحدث بكل هذه الفصاحة مع تبادل القص والمعسل؟ أما الحوار بالعامية هو الحوار السينمائي، وقد تسرب إلى رواياته بالتبعية.

ما بين العامية والفصحى، غلبت لغتي الأجنبية لساني في بداية كتابتي. أقف هنا على نقيض نجيب كليًا، فهو تلميذ الكُتَّاب وأنا تلميذة المدارس الأجنبية التي آلت بها الظروف إلى الدراسة بنفس بجامعة حكومية في قسم قريب له. هنا، بدأت أبجديتي العربية تتسلل إلى قلمي.

ما بين المجموعات القصصية الأولى والمجموعات اللاحقة، انشغل نجيب محفوظ بالروايات لنقل واقع حياته من طفولته بحي الجمالية وصباه في العباسية كما نشهد في ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية. يقع بيت أسرتي لأمي في الجمالية أيضًا، بيت متهالك آيل للسقوط وتجمد حكم إزالته بسبب عناد خال جدتي الأعمى الذي يرفض الرحيل. وحاليًا أعيش في العباسية لكنها نسخة مختلفة قليلاً عما عاصره نجيب.

تأخذنا الثلاثية في رحلة شخصية جدًا عن حياته بغض النظر عن أنها رحلة توثيقية لشئون سياسية ومجتمعية في المقام الأول. صحيح لم يترك لنا سيرته الذاتية، لكنه ترك هاديات في كل شخصية خيالية خلقها لنستدل بها عليه، وأحيانًأ أخرى، مرر لنا بعض الخبرات الشعورية المؤثرة في كينونته، مثلا نشهد وحدة «كمال» في طفولته، لأن نجيب هو أخر العنقود لأسرته أيضًا، فأقرب أخ له يكبره بخمسة عشر عام. ونشهد حسه السياسي وقوميته في «فهمي» بكل ما فيه من غضب وسعي نحو الاستقلال، وربما نستدل على شقاوته في «ياسين».

بالطبع نتشارك قسم من الوحدة، والقومية، والشقاوة.

يقول في إحدى مقابلاته التلفزيونية: “الكاتب غير مطالب إلا بالصدق، الصدق مع ذاته في المقام الأول، فيتحرى في قلبه عما يريد قوله وكيف يكتبه، ويطيعه”. في الحقيقة أني لستُ أول من يبحث في تاريخ حياته، وبالتأكيد لن أكون الأخيرة، ولن تتوقف الأسئلة الشخصية عن التوالي. يجيبنا بنفس الردود؛ أنه لا يوجد شيء مميز ليفصح عنه في كل مرة، وهو في ذلك صادق. أفضى نجيب بكل ما فيه من وجدان وفكر في كتاباته.

الصدق هو الفضيلة التي تمكن نجيب محفوظ من ممارسة أي فضيلة أخرى. هكذا، نعرفُ نجيب عن ظهر قلب، نستدل عليه في كل قصة يحكيها وكل شخصية يخلقها، يضفي عليها خصلة من خصاله تاركًا برحة للخيال والخصوصية. كلا العنصرين يكمل احدهما الأخر. خلق، في بعض الأوقات، حياة لشخصياته كان يمكن أن يحياها هو ولم يُقدر له. مثلاً شاهدنا تعاسة «كمال» بعد تمرده على دراسة الحقوق واتباعه لقلبه الذي حثه على كلية المعلمين العليا.. ربما كان ليلقى نجيب نفس المصير لو فضل الفلسفة عن الأدب.

أجد السبيل للصدق سهلا، بل لا أرى سبل غيره، لكن الفضيلة التي تُمكّني من العيش هي الجرأة. تتطلب الكتابة جرأة، شجاعة فطرية؛ لكي أفصح عن ذاتي وأشارك نفسي على الملأ بين سطوري. ليست كل الأعين ودية، لكني أتجرأ، أفصح وأكون من أنا عليه.

أقرأ  نصوصي أمام الجميع في الورش التدريبية دون خوف، لكن ليست كل الأعين بمُصادقة خارج هذا السياق. أخاف أن أُكفر وأنا من المؤمنين، أو أُسجن للإخلال بالقيم لا سمح الله، أو يحاول أن يغتالني أحدهم أو يشوهني بحمض حارق.

قابلت نجيب صادقًا مُركزًا. قرأت أول رواية له «السراب» في عمر السابعة عشر على الطريق السريع المتجه نحو سيناء في عطلتي الصيفية من المدرسة. وأخوض الآن، خلال كتاباتي عنه وإعادة مشاهدة الأفلام والمقابلات، رحلة نجيب من الطبيعة والواقع إلى الرمزية والفكر. تعد رحلته من الأدب إلى السينما هي رحلة من الإسهاب إلى التركيز عَلمت كل الكُتاب، أن الجملة التي تغني مؤلفها عن صفحة هي الأفضل. نرى ذلك بوضوح في مؤلفاته المركزة بعد امتهان السيناريو مثل اللص والكلاب وثرثرة فوق النيل وحكايات حارتنا، ولو أن أحب الأعمال إليه تظل الأعمال الطويلة مثل الحرافيش، وأولاد حارتنا، والثلاثية طبعًا، والمرايا. المفضلات طويلة مُسهَبة، شخصية للغاية وقريبة إلى الواقع.

إن سألتني الآن من هو نجيب محفوظ، سأجيبك أنه الفتى التي خافت أمه أن ترسله للكُتاب بمفرده لكي لا يفل هاربًا مع أصحابه. الفتى الذي يطمح إلى الحلم الصبياني الخاص بأولاد البحر المتوسط: أن يصبح لاعب كرة قدم. وفي مراهقته تصور له أنه فيلسوف من الطراز الرفيع، وأراد فناء عمره في البحث عن الأجوبة. وفي عز شبابه أقبل على الحياة حرفوشًا في نهم، وذاق من كل الكؤوس ما لذ وطاب. تمنى في شيبته لو كان رحالة، يسافر من شمال مصر لجنوبها، يسبح بالشرق، ويخيم بصحراء الغرب.

الحرفوش هو التكامل بين الموهبة والاجتهاد، بين الأمل والعزيمة ثمار المقاومة، والتقصي الدائم عن أصل الأمور. يلهمني بالإبداع والتأني والإيمان.. يلهمني أن أكون نفسي.

 

مشاركة: