ينتج عن التعاون الثاني بين المخرج چون إكرام والمؤلف محمد عبدالقادر عمل سينمائي جريء على غرار فيلم «كاملة» في 2022.
تبدو قصة الفيلم الجديد «لأول مرة» مميزة، ليس لكونها جديدة في العموم، وفي الوسط الفني المصري خاصةً، بل لأنها أيضًا تضم في باطنها عناصر سردية مُركبة تترابط مع الحكاية الأساسية. يدور الصراع الأساسي حول اكتشاف إحدى الزوجين -البطل الرئيسي: عمر الشناوي- إصابته بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV) عن طريق الصدفة، ويكون أول سؤال يقفز إلى ذهنه هو: “متى خانته زوجته؟”.
يطرح تساؤله المبدئي حول الخيانة بُعدين أساسيين؛ الأول يعكس المسافة العاطفية بين الزوجين، فبدلاً من الهروع باكيًا إلى زوجته -تارا عماد- والإفصاح عن مخاوفه، يبني خطة محبكة لمواجهتها بفعلتها التي لا يملك دليل واضح لها. يُعد الاتهام بالخيانة، بين زوجين محبين وموضع الحسد في دوائرهم الاجتماعية، بداية صادمة للفيلم قادرة على جذب انتباه المشاهد. تبدأ في تأمل تلك المسافة بين الزوجين، لغة حوارهم الحادة، كلام دون تواصل عميق يفصح عن مخاوفهما في أسوأ الصور.
أما البُعد الثاني، فيتعلق بالحيرة بين الأدوار الجندرية التي نؤمن بها وتلك السائدة مجتمعيًا والتي تلقى القبول، وما يترتب عليهما من قيم شخصية وأحكام تؤثر على إدراك الشخص للعالم. على سبيل المثال، يفتتح البطل حواره بأنه لا يفهم في صنف النساء، بل هو “مغفل” وقع في حب امرأة غير مخلصة. يستمر هذا الخط طوال الفيلم، من خلال مراجعة الزوج لكل قرارات زوجته الحياتية آملا في إيجاد دليل إدانتها، أو الضغط عليها بالاعتراف. يراجع قرارها في الإجهاض، ينبش في علاقاتها السابقة ويعنفها لفظيا وجسديا، يفعل كل ما لا يغتفر لأنه يدرك موقفه كرجل في المقام الأول لن يلومه أحد على رد فعله متزايد العنف، متخليا بكل سهولة عن تفهمه السابق لقراراتها ودعمه الذي يبدو الآن مزيفا لمبادئ مناصرة حقوق النساء.
إحدى فجوات القصة هو عدم تلائم المستوى الثقافي مع الطبقة الاجتماعية التي يندرج تحتها الزوجان. فمن المفترض أن كليهما ذو مستوى تعليمي رفيع ويعلم أن فيروس مثل “نقص المناعة البشرية” ينتقل بطرق عديدة بخلاف الجنس؛ فقد ينتقل ببساطة من خلال عيادات التجميل، وتعاطي المخدرات بشكل غير آمن، أو استخدام أدوات طبية غير معقمة…إلخ.
السرد البصري في مقابل الحوار
يساهم كل من التصوير والديكور في ترسيخ تلك المسافة بينهما معنويًا ومكانيًا، فعلى الرغم من تعدد الصور العاطفية المبروزة على كل حائط في منزلهما الواسع، فإن حجرتهما والمنزل بأكمله يبدوان فارغين. لم استطع التحديد إذا كان خلو علاقتهما من ما يعرف بالـ”كيمياء” عن قصد، أم أنه تحدِ واجه فريق الإنتاج في اختيار الأبطال.
كان من الأولى استبدال ديكورات المنزل المبالغ بها بلحظات حميمية سابقة بين الزوجين للاستدلال على عمق قصة حبهما في الماضي. هذه السردية البصرية كانت لتساهم في ارتباط المشاهد بالشخصيات المطروحة أمامه، والقدرة على فهمها والتعاطف معها إن استطاع.
أما الفجوة الثانية في السرد، فهي الاعتماد الكلي على الحوار كطريقة مباشرة في الحكي بدلا من السرد البصري الذي يُعد لغة السينما في الأساس. بهذا، تُفقد الحوارات المباشرة مساحة التفاعل بين المتلقي والشخصيات، مما يجعل التجربة أقل تأثيرًا.
يُضاف إلى ذلك الإفراط في الأداء التمثيلي، فالمبالغة الأدائية قد تكون مقبولة في المسرح، لكن مشاهدتها على شاشة السينما يخلق حالة من الزيف تُنفر المشاهد وتفقده الاندماج. ومع ضعف البناء البصري للقصة، تصبح الأحداث مفتعلة وغير سلسة، ويقع عبء نجاح الفيلم كليًا على الحبكة، التي بدت لاحقًا ساذجة ومُتوقعة. منذ لحظة مبنى المختبر في بداية الفيلم، يستطيع أي مشاهد التكهن بوجود خطب مروع في نتيجة التحليل، الذي لا يُطلب عبثًا من الأطباء، ولا يوجد سبب واضح لإجراء البطل له. ثم التكهن بموت الزوجين بمجرد ظهور المسدس في مشهد سابق له.

فيلم لأول مرة
خبطات متتالية متحيرة
تتفاقم الأحداث داخل الفيلم ككل، وليس بين البطلين على وجه التحديد، مما يتيح استكشاف عناصر إضافية تساعد على فهم الشخصيات بصورة أعمق، لكنها تظل غير موظفة بشكل جيد على مستوى المعالجة. من بين هذه العناصر، الديناميكية بين أسرتي الطرفين، حيث تظهر والدة البطلة فجأة طالبة العفو عن فشلها في الأمومة، وتسعى إلى استعادة التواصل مع ابنتها بعدما أصبحت على مشارف الموت.
يفتح الفيلم نوافذ قصصية متتابعة دون اهتمام حقيقي بنهايات تلك القصص أو الكيفية استثمارها في خدمة القصة الأساسية. نجد شقيق البطل، زير النساء، عنيف، كثير المشاكل مع زوجته التي تظهر لاحقًا بآثار الضرب على وجنتها. صحيح أن الأخوين نشآ في البيئة ذاتها، لكن المخرج يحاول إخبارنا أنهما مختلفان تمامًا. وهنا تكمن المشكلة: بدلًا من أن يترك لنا مساحة لاكتشاف الفروق بأنفسنا، يعمد إلى شرحها مباشرة، مما يحول السرد إلى استعراض للأحداث بدلًا من تركها تتكشف بصورة طبيعية.
نجد أنفسنا إزاء مشكلة جوهرية في تناول القصة وإيقاعها حيث يغلب الحوار المباشر على القصة، ولا يتسنى لنا رؤية اختلاف الأخوين عن بعضهما ونشأتهم لكي يقيم المتلقي تلك العلاقة ويحكم بنفسه. ماذا يفيد هذا الخط السردي على أية حال؟ كيف يخدم قصة الزوجين؟ أم هو فيلم عن أخوين متناقضين؟
وما بين الأسرتين ومشاكلهما الخاصة، نشهد أسرة ثالثة لا نرى منها إلا الأم ونسمع صوت الابن على الهاتف. كل ما يربطها بهم هو الجيرة بحكم الموقع الجغرافي ، فنواجه صعوبة في معرفة الغرض من هذه الإضافة السردية. ماذا تضيف الأسرة الثالثة إلى القصة الأساسية؟ إن رؤية ثلاثة أسر دون ربط واضح بينهم قد يشتت المتلقي عن الحبكة الأصلية ويضعفها.
من الممكن توظيف الكثافة الدرامية بما يساهم في تناول الشخصيتين بشكل أعمق إذ ركز الصناع على عرض علاقتهما الأسرية بعائلتهما وتوضيح تطور شخصياتهما عبر مراحل الصراعات المختلفة مع الأهل، وكيف تنعكس آثاره على زواجهما الآن.
لا أريد أن أسمع عن مشاعر تارا عماد بعد هجر أمها لها، أريد أن أرى شخصية “شاهندا” في طفولتها تُهجر وتُرفض مرارًا وتكرارًا من أمها حتى تقرر ألا تقترب منها مجددا. أريد أن أرى كيف ترعبها تلك التجربة من الأمومة وتدفعها للإجهاض. أرغب في رؤية شخصية “خالد”، الزوج المحب الحنون، في حالة الغيرة التي يحاول السارد فرضها لأن زوجته أصبحت مديرته. أفضل أن أرى تلك المقارنة المؤرقة بين الأخوين التي تطارده حتى الآن عن السماع عنها.
تُكدس القصة بعارضة الاغتصاب الزوجي، وهي أيضًا مبالغة في تفاقم الأحداث، وتبدو لو أنها تفرض جرأة سينمائية غير ضرورية لتميز العمل بأي شكل، أو محاولة غير ناجحة للهروب من مأزق التصوير في موقع واحد فقط.
ربما قيّد صناع العمل أنفسهم بالالتزام بتصوير معظم القصة داخل المنزل، أي اختيار موقع ثابت للأحداث، فيقف عائق أمام إيقاع الفيلم بشكل واضح. الأكيد هو أن كثافة الخيوط السردية لا تحل هذه المشكلة، بل تخلق مشكلات بنائية غيرها.
الإيقاع المكثف للفيلم يساعد في خلق حالة التوتر ونقلها لي، وقد تساعد هذه الإضافة في تعميق العناصر الفرعية المتصلة بالقصة الأساسية من ناحية، وتناول الشخصيات وإرتباط المشاهد بهم من ناحية أخرى. مع ذلك، أُقدر أن الفيلم يسعى إلى تقديم فكرة مختلفة وإن لم تنجح تمامًا في التنفيذ.