على الرغم من شكوى السينمائيين والنقاد منذ سنين طوال بما نعتوه بانحدار واضح في مستوى إنتاج السينما المصرية، ظلّت السينما تمنحنا كل عام لمحات من قدرتها الكامنة على الصعود مجددًا على الساحة العالمية وترك بصمة كتلك التي اعتادها العالم من السينما المصرية منذ بداية عهدها.
وعلى الرغم من أن هذا العام لم يبدأ بأي مما يبشر بالمنطق السابق، إلا أن نصفه الثاني كان مبشرًا بلا شكّ ومشيرًا لسنة رائدة ننتظرها العام التالي بشغف.
انشغال نجوم “مسرح مصر” بالموسم السعودي
شهد هذا العام اختفاء معظم نجوم “مسرح مصر” من شاشات السينما إلا من بضع محاولات قليلة لا تذكر مقارنة بالأعوام الماضية، في حين تواترت الأخبار طوال العام عن مشاركاتهم في نصوص مسرحية أو كضيوف شرف في أعمال سينمائية سعودية على هامش موسم الترفيه السعودي.
عالج المنتجين هذا الفراغ باستدعاء وجوه نادرة الظهور على شاشة السينما، مثل ليلى علوي التي عادت للظهور هذا العام بكثافة على شاشة السينما في أكثر من عمل، مثل «آل شنب»، و «جوازة توكسيك»، و«مقسوم» وحتى فيلم «المستريحة» الذي انتهت بالفعل من تصويره ولكنه تأجل للعرض في بداية السنة القادمة 2015.
كذلك استدعى المنتجين وجوه تميّزت دراميا في المواسم الرائجة لعرض المسلسلات على شاشة التلفزيون، فظهر فيلم «الملكة» من بطولة “هالة صدقي” اتكالًا على نجاح دورها في مسلسل «جعفر العمدة»، وشخصيتها فيه التي حملت نفس اللقب؛ “الملكة”، على الرغم من اختلاف محتوى الفيلم بالطبع.
أما باقي الأفلام من نفس الفئة فاعتمدت على نجوم مشتركين – مثل شيرين رضا، بيومي فؤاد، سيد رجب، محمد رضوان – في معظم أفلام هذا التصنيف، الذي تعدى حتى مجرد اصطلاح “أفلام خفيفة”، فصارت أفلام خفيفة بلا محتوى معقول ولا نصوص كوميدية تعتمد على كوميديا الموقف، وإنما مجرّد إفيهات وسكيتشات متتابعة تصلح لتصبح “ريلز Reels” قصيرة مضحكة على منصات التواصل الاجتماعي بلا أي إضافة لا حالية ولا ممتدة لأرشيف لسينما المصرية.
الأفلام الكوميدية … إيه فيه أمل!
عودة من منطلق الفقرة السابقة، نجد بقائمة إنتاج هذا العام فيلمان يندرجان تحت تصنيف الأفلام الكوميدية، التي ربما لا يمكننا أن نشيد بعظيم أدائها أو ترابط محتواها تماما، ولكن يمكننا حتمًا وضعها في تصنيف مختلف تماما عن الفئة السابقة.
«فاصل من اللحظات اللذيذدة» و «إكس مراتي» الفيلمان بطولة مشتركة لـ”هشام ماجد”، أذكى الثلاثي الشهير (هشام – فهمي – شيكو) في رأيي. لا يهتمّ هشام بالبطولة المطلقة على حساب النص، ونجد قدر ظهوره في «فاصل من اللحظات اللذيدة» عادلًا بما يفيد محتوى الفيلم معتمدًا على كوميديا الموقف والفكرة التي هي متخيلة بالأساس.
يعيش “صالح” و”درية” حياة زوجين من الطبقة تحت المتوسطة، مليئة بالمشاكل والعراك الذي لا ينتهي. حتى يكتشف “صالح” ذات يوم بابًا خفيًا في منزله يوصله لبعد موازي حيث نسخة أخرى، أروق وأكثر ثراء ونجاحًا من “صالح” و “درية”. يستمتع “صالح” برحلات متوالية للعالم الأفضل ويعتبرها لحظات يختطفها من السعادة لتعينه على واقعه المزعج، ثم يقرر أخيرًا أن يختطف نسخته الثرية ويحبسها في عالمه هو، محتفظًا بالسعادة الأبدية والزوجة الجميلة والنجاح المهني في العالم الموازي للأبد… فقط حتى تكتشف “درية” هي الأخرى نفس الباب.
كما ذكرنا، يعتمد الفيلم على كوميديا المواقف وتناقض الشخصيات من العالمين، ويحقق هدف السينما أو الإبداع العام في مجمله وهو “المتعة”، العامل الذي ساعد على نجاح العديد من الأفلام الكوميدية في تاريخ السينما المصرية مثل أفلام فطين عبد الوهاب ومحمد عبد العزيز وغيرهما.
2024 وبصمة واضحة للمخرجات المصريات
شهد هذا العام تألقًا واضحًا من المخرجات المصريات اللاتي قدمن لإنتاج هذا العام أكثر من عشرة أفلام طويلة، عرض بعضها بالسينمات والبعض الآخر بمهرجانات السينما المختلفة ولم تصل بعد للجمهور العادي.
أعتمد في الواقع على مصطلح “تألق” لا طفرة كما اعتادت المواقع وصف الأمر في الآونة الأخيرة، ربما تكمن ظاهرية الأمر في عدد الأفلام التي قدمتها مخرجات مصريات في عام واحد، وهنا يكمن منطق الظاهرة، في حين تميّزت المخرجات المصريات بالفعل في سنوات سابقة في تقديم أعمال جادة وملهمة في تاريخ السينما المصرية، مثل كاملة أبو ذكرى وهالة خليل وغيرهما، وما زلت أرى فضلهن جميعًا على هذه “الطفرة” في تشجيع المنتجين لقبول مشاريع أفلام تقف ورائها مخرجات، خاصة لو كان إنتاجهن السينمائي قليل أو لم يحظ بالشهرة الكافية مثل هبة يسري مخرجة فيلم «الهوى سلطان»، أو كان إنتاجهن السينمائي قد انحصر في مرحلة الأفلام القصيرة مثل نهى عادل مخرجة فيلم «دخل الربيع يضحك».
«دخل الربيع يضحك»… لقاني حزين
عرض فيلم «دخل الربيع يضحك» ممثلًا لمصر في المسابقة الدولية ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ45 وحاز في ختامه على أربع جوائز؛ جائزة الاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي)، وتنويه خاص للممثلة رحاب عنان، وجائزة أفضل إخراج لنهى عادل، وجائزة هنري بركات لأفضل إسهام الفني.
يحكي الفيلم أربع قصص منفصلة الأحداث وإنما متصلة المعنى أو الرمزية ومنها كون الفيلم يقتبس بدايات حكاياته ونهايتها من شطر رباعية صلاح جاهين، (دخل الربيع يضحك …لقاني حزين)، فما يبدو في أول القصة حدثًا سعيدًا ينتهي حزينًا وتعددت الأسباب والحزن واحد.
في إشارة لجائزة الممثلة رحاب عنان والتي حازت على تنويه خاص من لجنة تحكيم المسابقة لتميّزها في دورها على الرغم من كونه أول أدوارها على الإطلاق، كما معظم أبطال الفيلم، تبرز “زازو” الشخصية التي لعبتها رحاب ضمن كل الحكايات وتعلم حين تراها أنها ليست مجرد شخصية في فيلم، لا بدّ أنك تعرفها حقًا أو أنك قد رأيتها تجتمع بأصدقائها لتحتفل بعيد ميلادها في إحدى الكافيهات الشهيرة يومًا ما.
تحكي هذه القصة أحداث ساعة، تجتمع فيها نساء من خلفيات اجتماعية أو ثقافية مختلفة، فيما يبدو احتفالًا بعيد ميلاد إحداهن. تتابع المشاهد ولا تجد سببًا حقيقيًا لهذا التجمّع إلا من كونه صالة عرض، تتباهى فيها كل منهن بما يحدث في حياتها، ما اشترت وباعت ومن قابلت أو من كادت، ولا يخلو الأمر من نميمة، ونظرات حاقدة. هذا ليس عيد ميلاد، تلك ليست مناسبة فرح، الربيع جاء ليضحك وانتهى بمشاهدة مآساة لسيدات غير سعيدات، نصر كل منهن على رسم الابتسامة على وجهها حتى لا يشمت بها أحد. تفرغ كل منهن ضغوطًا تعاني منها لأسباب مختلفة وتسقطها على من حولها، حتى “زازو” التي خانها زوجها واضطرت لبلع الإهانة، أو لتجاهلها، تنتفض لتزيح العار من فوق كتفيها حين تشمت بها إحدى صديقاتها، وتسقط عليها كل ألمها وأوصاف الخيانة.
لم تبدع نهى عادل في الفيلم بجعله مترابطًا على الرغم من تعدد فصوله أو اختلاف محتوى حكاياته، وإنما لأنها قد أظهرت شخصيات النساء ومجتمعهن على حاله، حكت نهى عن النساء بالطريقة التي تخجل النساء منها في الحكي عن نفسها.
«آل شنب» و «مين يصدّق» الأسوأ هذا العام.
وإذ نسجّل هذه الظاهرة أو نوثقها لأجل حصاد العام، فلا نعني بها أبدًا تفوّق جميع هذه التجارب، بل نقرّ بتميزّ بعضها وسوء البعض الآخر، وفي هذا نؤكد على أن “أفلام المخرجات المصريات” لا يعدّ تصنيفًا وإنما تخضع الأفلام القائمة تحته للنقد والأطراء أو إبداء الاستياء.
يبدأ فيلم “آل شنب” بمشاهد متتابعة يقصد منها تعريف الأبطال ودرجة قرابتهم، نهاية ببداية قصة الفيلم نفسها حين وصول خبر وفاة الأخ. تبدأ الحكاية حين تجتمع العائلة على طول الطريق حتى محلّ الجنازة، وقضاء أيام العزاء الثلاثة في بيته. تتقاطع مشاهد الأبطال وقد فشلت كل محاولات تعريف درجات القرابة، فلا تعرف من يكون هذا الفتى في المشهد وما درجة قرابته بالفتاة التي تشاركه المشهد نفسه. ببساطة تبذل معظم جهدك لا في متابعة الفيلم بل في تخمين “هو مين ابن مين”؟
يقدم الفيلم شخوصًا بلا تاريخ، لا تعرف سبب وجودها في الفيلم، وكذلك مشاكل وأسئلة تطرح، يذكرك الأبطال بها كل لحظة ولا تجد لها إجابة حتى نهاية الفيلم. يفتقد الفيلم لوحدة مترابطة تجمع قصته، فحتى الأفلام التي من المفترض أن تدور في نطاق ضيّق زمنيا أو مكانيا، عليه أن يفرض تاريخًا للشخصيات وسببًا لظهورها، بداية ونهاية.
لنتذكر فيلم “بين السما والأرض” واللوكيشن الذي دارت فيه معظم أحداث الفيلم، والشخصيات التي جمعها قدر واحد بقرار ذو أسباب متعددة لكل منهم بركوب المصعد هذا اليوم في هذه الساعة، لكننا ومع نهاية أحداث الفيلم نصل لعقدة الفيلم الواضحة ونعلم كل المطلوب عن تاريخ الشخصيات ودوافعها، بدايات ونهايات.
افتقد «آل شنب» لكل ما سبق، حتى تفاصيل الشخصيات لم تبرز بما يكفي لتتذكرها بعد الوصول لتترات الفيلم، فلا تكاد تتذكر سوى با روكة أسماء جلال الرديئة وليلى علوي المنزعجة طوال الوقت بلا سبب، والتي تنفكّ عقدتها مع ابنتها في نهاية الفيلم دون وجود ما يفسر العقدة في البداية أًصلًا ولا ما يؤهل لنهايتها. قدّمت آيتن الفيلم برؤية هي وحدها من تعرفها وتعرف حلّ ألغازها وعقد شخصياتها، فاتها أن ترينا على الشاشة كل ما يجري في عقلها، فما تراه في في المشاهد مفسرًا نراه نحن لغزًا متكرر بلا هدف.
«مين يصدّق» … إن هذا فيلم؟
لا تكون البدايات الأولى لعظماء المخرجين دائمًا تجارب ناجحة، ولذلك لا يمكن الحكم على مستقبل المخرجة زينة عبد الباقي استنادًا على فيلمها «مين يصدق». ومع ذلك، يبقى هذا الفيلم مثالًا على تجربة سينمائية توفرت لها إمكانيات دعائية وإنتاجية كبيرة، لكنها لم تُستغل بالشكل الذي يليق بها.
عُرفت زينة بحديثها شديد الصراحة حين سئلت عن فضل والدها الممثل أشرف عبد الباقي في مسيرة عملها كمخرجة، أجابت زينة بوضوح بأنها تقرّ بأن هذا السبب الأول والدافع الأهم في وصول تجاربها الإخراجية لعالم السينما المصرية بسهولة، وهو تصريح رأيته جريئًا في ظل تصريحات أخرى من جيل “أبناء الفنانين” الذين أصر أغلبهم أن شهرة آباءهم لا علاقة لها بوجودهم في المجال، في حين أثبت الزمن أن أصحاب الموهبة من بين هذا الجيل نادرين العدد.
لم أر عيبًا في ظهور عدد كبير من الممثلين المشهورين كضيوف شرف في المشاهد الأولى لفيلم «من يصدّق»، مجاملة لـ”عبد الباقي”، بحسب تصريحات زينة نفسها، وتذكرت فيلم «أم رتيبة»، الذي ظهر فيه عماد حمدي وأحمد مظهر وفريد شوقي وحسين رياض في أدوار شرف لشخصيات لم تحمل حتى اسمًا في النص، مجاملة لمؤلف الفيلم يوسف السباعي. إن كان ظهور كل هؤلاء النجوم في «أم رتيبة» مهمًا لا شرفيا فحسب، وفي مشاهد مؤثرة وإن ظهرت لثوان على الشاشة، فلم يكن ظهور ضيوف فيلم «مين يصدّق» بهذا القدر من الأهمية ولا التأثير، وقد ظهرت صورهم جميعًا على أفيش الفيلم كمجرّد ردّ للجميل.
يحكي الفيلم قصة “نادين” الفتاة الثرية التي تتعرف على الفتى الفقير “باسم” وتنبهر بجرأته على النصب وتقرر مشاركته عمليات النصب. ينقسم الفيلم لعدة فصول غير مترابطة، يقدم كل فصل عملية نصب مختلفة، يطرح الفيلم عبر كل منها رسالة ما أو انتقاد لوضع قائم كحمّى تقديم الورش السينمائية لتعليم التمثيل والإخراج بلا تاريخ أو خبرة مؤهلِة لمقدميها، ونهاية بظهور أشرف عبد الباقي نفسه في دور رجل العصابات شديد العطف والرقة على حفيده، شديد الدموية والعنف لكل من يعصون أمره. كلاشيهات كلاشيهات لا تنتهي. أو بالأحرى تنتهي بنهاية الفيلم.
صحيح أن قصة الفتاة الثرية التي تعاني من إهمال والديها هي قصة مبتذلة لكن المعالجة كان يمكنها إصلاح هذا الابتذال أو تجاوزه، في حين ساهمت “زينة” وهي مشاركة في كتابة قصة الفيلم في تسطيح الفكرة، وكانت النتيجة النهائية التي نراها على الشاشة غير مُرضية على الإطلاق.