تتعامل الكتابات والآراء العامة مع السينما المصرية من خلال نسق نقدي محدد وهو نظرية المؤلف Auteur Theory، النظرية التي نشأت في فرنسا واشتهرت في أمريكا. بتبني عدسة سينما المؤلف، تنتمي الأفلام لمخرجيها فنيًا وموضوعيًا، ويترسخ ذلك بشكل أكبر مع مرور الزمن. حيث يُنظر إلى كل مجموعة من الأفلام بتفحص لاستخراج تشابهات موضوعية وأسلوبية تجعل لكل مخرج/مؤلف سماته الخاصة، لكن بجانب ذلك التوجه العام اللاواعي، يحتل مجموعة من مؤلفي السيناريو مكانة خاصة في تاريخ السينما المصرية، يمكن عدهم على الأصابع في كل عقد أو مرحلة سينمائية من الثلاثينات حتى يومنا هذا، يهيمن على فترتي الثمانينيات والتسعينيات اسم أكثر من غيره على التأليف السينمائي في مصر، وهو السيناريست بشير الديك.

يرتبط اسم السيناريست المصري الراحل بشير الديك بموجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، حملت كثير من الأفلام التي انتمت للموجة اسمه، في مجال التأليف أو كتابة الحوار أو الاشتراك في خلق القصة من الأساس. كون الديك  مع مخرجي تلك الموجة شراكة قريبة ومرنة، تؤثر كتاباته على بصريّاتهم وتؤثر أساليبهم على كتابته، لكن أعمال الديك لا تقتصر على مخرجي الموجة مثل محمد خان وعاطف الطيب بل تمتد مسيرته وتتسع قبل الموجة وبعدها زمنيًا ونوعيًا، تمتد من ميلودراما تيسير عبود إلى اقتباسات عالمية بطولة نادية الجندي. للديك مسيرة متنوعة تتجاوز الستين عملًا للسينما والتلفزيون، وتتراوح بين أعمال خالدة في تاريخ السينما المصرية وأعمال جيدة ومتوسطة، مع غزارة إنتاجية قد تصل إلى أربعة أفلام في العام الواحد.

ولد بشير الديك عام 1944 في قرية صغيرة بمحافظة دمياط وتخرج في كلية التجارة، وبدأ ممارسة الكتابة من خلال القصص القصيرة، ثم انتقل الى كتابة سيناريوهات الأفلام السينمائية، وهو ما يمكن ارجاعه الى اهتماماته الأدبية.  شهدت مسيرته العديد من الاقتباسات منها فيلمه الأول «مع سبق الإصرار» 1979 الذي يعد اقتباس حر لرواية «الزوج الأبدي» للروسي فيودور دوستيوفسكي، واقتباسه  لـ«جاتسبي العظيم» في فيلم «الرغبة» 1980 لمحمد خان،  واقتباسه لـ«الأب الروحي» من الأصل الروائي والسينمائي في «عصر القوة» 1991 . مع تقدم مسيرته، أصبحت كتابته في تناغم مع رؤى مخرجي الواقعية أو صانعي الأفلام المائلين لتصوير شكل أكثر أرضية وقربًا من الحكايات اليومية والهموم الاجتماعية والسياسية، حيث تراجعت الاقتباسات الأدبية لصالح استلهام قصص مستمدة من قصاصات الجرائد أو من تصوير العوالم الداخلية لأفراد غير مرئيين ولا تُروى حكاياتهم عادة.

فيلم «مع سبق الاصرار»

الفرد في مواجهة السلطة

ابتعدت أعمال  الديك مع بداية الثمانينيات عن القصص الميلودرامية وتوجه إلى شكل من الواقعية الاجتماعية ومع ذلك  تخللت كتاباته كلها ثيمات واضحة، سواء كانت بوليسية أو ميلودرامية أو اجتماعية. أحد تلك التيمات هو علاقة الكيانات السلطوية بالأفراد، أو علاقة الأفراد بأفراد آخرين يمثلون قوة نظامية أو مادية أو الانظمة نفسها كمفاهيم مجردة، يمكن تتبع ذلك من فيلمه الأول  «مع سبق الاصرار» إخراج أشرف فهمي، حيث يتناول الفيلم، مثل الرواية الأصلية، ديناميكية العلاقة المضطربة بين رجل قانون، وكيل نيابة، يدعى محمود رفعت (محمود ياسين) وصديقه القديم مصيلحي (نور الشريف)، يلتقي الاثنان بعدما أخذتهم الحياة إلى القمة والقاع. أصبح محمود ممثل لسلطة رسمية وطبقية، بينما هبط مصيلحي إلى القاع خصوصا بعد وفاة امرأته التي تركت له ابنة يشكك في نسبها، لكونه وزوجته عجزا عن الإنجاب لسنوات. في «مع سبق الاصرار» يستخدم مصيلحي الحيل لكي يصل للحقيقة ولكي ينتقم، بينما يمارس محمود  سلطته أولا لكي يتخلص من حقيقة أبوته للفتاة وهي الحقيقة التي بإمكانها إفساد حياته الحالية وزواجه المستقر، ثم لكي يستحوذ على الفتاة بعدما فقدت زوجته حملها. يؤسس «مع سبق الاصرار» شكل من علاقة المقاومة للذوات السلطوية، وكذلك شكل من تصدع السلطة نفسها وهو ما سيستمر في مسيرة بشير الديك حتى نهايتها.

في العام نفسه صدر لبشير الديك من إخراج تيسير عبود فيلم «دعوني أنتقم»، الذي يدور في إطار أفلام البوليسية. الفيلم المقتبس عن فيلم فرنسي بعنوان no way out  يسرد قصة انتقام لشرطي سابق ترك محط سلطته لكي يتعامل مع مجرمين تسببوا في فقدانه لزوجته وابنته. يتبنى الفيلم جماليات ميلودرامية كلاسيكة وشخصيات تتحرك في اتجاه واضح حول المصير المحتوم، لكنه مثل «مع سبق الاصرار» يدور حول العلاقة المتوترة بالمؤسسات الرسمية والسلطة النظامية. بعد تلك الأفلام بعام، يعود الديك للتعاون مع أشرف فهمي في فيلم «الأقوياء»، الذي يتعامل مع شكل أكثر تعقيدًا من مواجهة الأفراد بالسلطة، في هذه الحالة تشترك الطبقة والنفوذ في خلق السلطة. تدور الأحداث في إطار عائلي وسياسي عن رشدي الباجوري (رشدي أباظة) في آخر أدواره، مالك الأرض الذي فقد أملاكه بعد ثورة 52 والذي يستحوذ ويتحكم في حيوات مصائر مجموعة من الفلاحين. لدى الباجوري ابنين أحدهما متوحد مع رؤاه السلطوية والآخر ذو ميول اشتراكية يسعى لإقناع والده بالتبرع بأرض لصالح الفلاحين والعمال، بينما يقنعه ابنه الآخر بالترشح لمجلس الشعب. تدخل حياة الأسرة فتاة تقرب للباجوري لكن بتاريخ دموي مع العائلة، وبدخولها تضطرب الحياة وتظهر الخلافات الجندرية والطبقية في رؤى أفراد العائلة. يتعامل «الأقوياء» بشكل ترميزي مع شبكة معقدة من علاقات القوى، حيث تمثل كل شخصية مدرسة سياسية من تاريخ مصر. في العام نفسه كتب الديك فيلمين آخرين أحدهما من إخراج علي عبد الخالق «الأبالسة» والآخر مع شريكه المتكرر تيسير عبود.

الفرد في مواجهة النظام

في العام 1981 عادت شراكة بشير الديك مع محمد خان، بعد فيلم «الرغبة» وارتباطه بالموجة الواقعية الجديدة. خلال تلك الفترة اشترك الديك  مع خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد في تكوين جماعة “الصحبة” للانتاج السينمائي، وعلى الرغم من الاختلاف البصري والسردي بين أفلام خان وأفلام مخرجين مثل أشرف فهمي أو تيسير عبود إلا أن تيمة مواجهة السلطة استمرت وأصبحت أكثر تعقيدًا وتوسعًا. يظهر ذلك بشكل جلي في تعاون الديك مع خان في فيلم «موعد على العشاء»، الذي يؤسس لشكل مختلف من مواجهة السلطة، حيث تتمثل السلطة هنا في فرد بعينه، بجانب تمثلها في شبكة من مفاهيم مجردة مثل البطريركية والطبقية. تتمثل السلطة في «موعد على العشاء» في عزت (حسين فهمي)، ويتمثل الفرد الذي يواجهها في نوال (سعاد حسني)، هذه المرة امرأة على عكس الأفلام السابقة، مما يضفي بعد آخر من السلطة والعنف الجندري واختلال ميزان القوة. يكتب الديك حواره وشخصياته هنا بالاشتراك في القصة مع محمد خان، مما يصنع تناغم حقيقي يجعل الفيلم تجربة يصعب تصنيفها.  نرى نوال تواجه سلطة عزت الطاغية وحدها، فهو تزوجها قصرًا بابتزاز مادي، وحتى بعد طلاقهما لم تسلم من ظله في كل جانب، لكن ما يميز الفيلم في مقاربته لذلك التحدي، هو شكل الانتقام والنهاية. في معظم الأفلام التي كتبها الديك مال لنهاية بها عنف متفجر، طلقات تتطاير وقتال دموي ربما يودي بحياة الجميع أو فقط الشخصية المستضعفة كما في «مع سبق الإصرار».

تصنع نهاية موعد على العشاء الشهيرة صيغة بديلة للانتقام، نهاية ليست متفجرة، لكنها عنيفة، بها يأس حقيقي من مجابهة السلطة، لكن في الوقت نفسه تضع الفرد/ نوال وجها لوجه مع السلطة/عزت، في عشاء هادئ من تنسيقها، تتغير نتائجه في أثناء حدوثه.

في العام نفسه، يتشارك خان والديك فيلم «طائر على الطريق» الذي يتناول شكل مشابه من علاقات القوة، لكن لا تتولى امرأة البطولة هذه المرة، بل تتشاركها. يدور الفيلم حول شخصية فارس (أحمد زكي) الاسم الذي سيصاحب أفلام خان لعدة سنوات،  فارس سائق سيارة بيجو ماهر، هائم في الحياة بين المشكلات المادية والوجودية، يصطدم بممثل السلطة الطبقية عندما تضعه حياته أمام مصادفة تضطره لاستبدال زميل له في مهمة نقل جاد (فريد شوقي) وزوجته فوزية (فردوس عبد الحميد)، جاد عجوز غاضب مصاب جسديًا بشكل يجعله أكثر غضبًا، لكن على الرغم من ألمه قادر على فرض قوته وسيطرته على زوجته وعلى العاملين تحته وعلى الجميع. يقع فارس في حب فوزية ولكنه حب يبدو كمحاولة انتحار أو محاولة للقيادة بسرعة نحو الهاوية فقط لتحدي تلك السلطة. تصنع علاقة الحب وحدة في مواجهة السلطة، واستدعاء الضعف من القوة، وينتهي التحدي كذلك نهاية دموية، وكأنه لا بديل للمواجهة غير الهزيمة، حيث يكمن الانتصار في الإقدام على المواجهة نفسها، في كسر الحاجز والعبور إلى الجانب الآخر.

في العام 1982 تتغير كتابات بشير الديك حول الفرد والسلطة نحو شكل أكثر إمعانًا في الواقعية، خاصة مع تعاونه الأول مع عاطف الطيب في فيلم «سواق الأتوبيس». كتب قصة الفيلم مع الديك محمد خان، في تعاون ثلاثي يجعل النظر إلى تلك المرحلة باعتبارها مرحلة يمكن قرائتها بنظرية المؤلف محل شك. ففي تلك الفترة بزغت سيولة إبداعية تشترك بها عمليات الكتابة والإتيان بالقصص بين المخرجين والمؤلفين المختلفين بحيث يمكن إرجاع الناتج النهائي لمجهودات إبداعية جماعية. تأخذ السلطة في «سواق الأوتوبيس» شكلًا أكثر تجريدًا، إذ لا تتمثل في شخص واحد، بل في نظام بأكمله، بسياساته الحالية وتوابعه الممتدة من الماضي. يواجه حسن (نور الشريف) عائلته وأصدقائه لكنه بشكل أعمق يواجه سلطة متجذرة في كل خطوة يحاول أخذها في حياته، وأحيانا يصبح هو السلطة وتصبح زوجته في مواجهته.  يتعامل «سواق الأوتوبيس» مع أزمة آنية لبطله وهي احتمالية إغلاق ورشة أبيه إذا لم يسدد مبلغًا لا يستطيع جمعه في وقت محدد، وأزمات متفرعة وهي توقه إلى ماض ليس ببعيد، ماض أكثر وضوحًا حيث كان له دور رجولي محدد كضابط جيش في عدة حروب، ماض يصنع قيمة لشكل معسكر من الذكورة، لا يحققه الحاضر لأن مقابل تلك الصيغة هو الثروة وهو ما يعجز حسن عن فعله.

ينتهي «سواق الأتوبيس» بفعل عنف رمزي رثائي لشكل حياة بائد، عنف يطال المستضعَف والمتعدِّي في آنٍ واحد، وهو مايمثله حسن نفسه.

فيلم «سواق الأتوبيس»

بشكل مشابه يمكن قراءة فيلم «الحريف» لبشير الديك ومحمد خان، حيث يواجه فارس (عادل إمام)  سلطة غير مرئية كليًا، ويصبح هو سلطة على من أضعف منه، فهو وحيد لأنه تعدى على زوجته بالضرب بعنف أدى إلى كسر أضلاعها، وهو في ضائقة مادية لأنه غير قادر على الاحتفاظ بالوظائف لإثارته الدائمة للمشاكل بسبب غضبه الكامن، يعيش فارس على حلم قديم وهو ممارسة كرة القدم بشكل غير نظامي، ويتوق لخلق حياة مستقرة وتقليدية أسريًا وماديًا. يكمن العنف «الحريف» في الانصياع للأمر الواقع، وليس في مجابهته. بخلاف «سواق الأوتوبيس»، لا يُفرغ فارس غضبه على فرد بعينه في النهاية، بل يصبح هو ما يكرهه؛ يترك ما يحب ويختار إصلاح حياته بشروط الواقع.

تصل مواجهة الفرد للسلطة إلى ذروتها في أعمال الديك  بعد عشرة أعوام من ذلك، بالتحديد عام 1992، من خلال تعاونه مع عاطف الطيب في فيلم «ضد الحكومة». من عنوانه لا يتعامل الفيلم مع موضوعاته برمزية أو مواراة بل بمباشرة ووضوح كمانيفستو ضد الفساد، يحتوي «ضد الحكومة» على بعض من أشهر الجمل المونولوجية التي كتبها بشير الديك، ليكون أوضح مثال على استمرار تيمة مواجهة الفرد للنظام والسلطة، يدور الفيلم حول شخصية مصطفى (أحمد زكي)، محامٍ اشتهر بفساده ودفاعه عن المجرمين جنائيًا وأخلاقيًا، والأهم هو استغلاله للضحايا لكسب تعويضات حكومية ضخمة. تتداعى تدريجيًا نزعة مصطفى اللا أخلاقية للتكسب من وراء مهنته، حينما يكتشف أن له ابن لم يعلم عن وجوده شيئًا. سيف (محمد نجاتي) الشاب ذو الخمسة عشر عاما كان ضمن مجموعة طلاب في رحلة مدرسية اعترض طريقها قطار لم يتوقف أثناء عبور الحافلة، أصيب الولد وأصبح قعيدًا، مما منعه من المشاركة في بطولات رياضية عالمية، فيما لقي العديد من الأطفال الآخرين حتفهم. وقد كان مصطفى يخطط لاستغلال المأساة والمطالبة بتعويض ضخم يستحوذ عليه مع زملائه.

تتحول وجهة الفيلم من تتبع استغلال المحامين لسلطاتهم إلى مجابهة ذلك المحامي للسلطة والحكومة والنظام بأكمله. وفي هذه الحالة، يصبح فعل العنف الأخير هو فعل خطابة، استخدام اللغة للإدانة والتأثير. أصبح الخطاب الأخير للمحامي ربما الأشهر في السينما المصرية، بأداء أحمد زكي العاطفي وكتابة الديك الحريصة، ربما أصبح كذلك مدعاة للسخرية، وهو مصير كل الأعمال الأيقونية، لكن على الرغم من مباشرته فإنه يمثل جوهر كتابات الديك، النظر في عين السلطة ومواجهتها، في مسيرة طويلة من الشخصيات والحوارات الأيقونية والمتنوعة، أصبحت جزءًا من سينما بديلة وعامة، وجزءًا من الذاكرة البصرية والسينمائية الشعبية لن تنسى في أي وقت قريب.

مشاركة: