بعد النجاح اللافت الذي حققه فيلم «الهوى سلطان»، من إخراج هبة يسري، مؤخرًا في دور العرض بصفته فيلمًا رومانسيًا، ربما كان خارطة طريق مفيدة لصُنّاع أفلام آخرين للتوجه إلى إنتاج النوعية نفسها. وبعد فترة وجيزة، ظهر على الساحة مؤخرًا فيلم «٦ أيام.. وعملت إيه فينا السنين» من تأليف وائل حمدي، وإخراج كريم شعبان، الذي يقدم فيلمه الطويل الأول من خلال هذا العمل، ومن بطولة آية سماحة وأحمد مالك. يسير الفيلم على النهج ذاته في تقديم قصة الحب التي تبدأ منذ الصغر، وإن كان يختلف في كافة التفاصيل بالتأكيد، ولكن يبقى هناك تأثر بحلقة البداية، وهي حب الطفولة، والأشخاص العاديين ذوي المهن والحيوات غير الخارقة، التي تتطلب الكثير من المجهود والبطولات وإنقاذ الحبيب من المصاعب وهكذا، مما اعتدنا رؤيته في سنوات كثيرة فاتت. وربما ذلك التأثر البسيط استشعره صُنّاع الفيلم بأنفسهم، ليرسلوا تحية للفيلم السابق ذكره في الجزء الأخير من فيلمهم.
لكن، في الوقت نفسه، لم يخلُ من التشابه الكبير مع الثيمة الأساسية لأعمال أخرى، مثل رواية «9 November» تأليف كولين هوفر، التي – باختصار – تدور حبكتها الرئيسية حول ثنائي يقرّران عدم رؤية بعضهما البعض مرة أخرى حتى 9 نوفمبر من كل عام، لمدة 24 ساعة بالضبط، ليجتمع الاثنان في مكان محدد ويتشاركان ما أنجزاه في وقتهما على مدار العام. وكذلك الفيلم الشهير «One Day» من إخراج لون شرفيج، عام ٢٠١١، والذي تحوّل إلى مسلسل قصير أيضًا بالاسم نفسه وعُرض على منصة نتفليكس العام الماضي، وتدور أحداثه حول علاقة ثنائي يتقدمان في العمر، مع كل حلقة بعام واحد، ومن خلالها يلمس كل منهما التغيرات التي تطرأ على الآخر.
كذلك هو حال «٦ أيام»، الفيلم الذي تدور أحداثه زمنيًا على مدار ١٨ عامًا، وفي واقع الأمر ما هما فعليًا إلا ٦ أيام، أو بالأحرى ٦ لقاءات، حيث طريقة السرد المشابهة لما تم ذكره، إذ يختار البطلان تاريخًا محددًا يلتقيان فيه كل عامين تقريبًا، ولكن بعد أن فرقتهما السبل إثر قصة حب طفولية في حيّ سكنهما القديم، ولقائهما صدفةً، منها تحدد هذا العهد بينهما بلقاء شبه سنوي تقريبًا أو أكثر، ليكشف الفيلم عن طريقة سرده لشخصيات وُضّحت خلفياتها بسلاسة، من حيث المستوى الاجتماعي المتوسط وحضور الحب في حياتهما منذ نعومة الأظافر، ثم التغيرات التي تنشأ وتتطور بتطور الزمن وبعد المسافات، لتصبح سردية الفيلم حاملة هم عنصر “الخبر”، خبر تطور كل شخصية، وكيف يمكنها تقديم ذاتها للآخر، وكيف يمكن لهما تقديم ذواتهما للجمهور، الذي لم يلتقِ بهما خارج حدود الـ ٦ أيام.
لم يتطرق الفيلم للخروج عن إطار يوم اللقاء الواحد، بمكانه وتوقيته، فلم نشاهد أبدًا أي أيام أخرى، لتبقى معلومة لنا حتى وإن كانت مبهمة للشخصيات الرئيسية، بل حافظ الفيلم على عهد أن الخبر المدرج يعرفه الأبطال والمُشاهد، لخلق حالة تساوٍ في المعرفة تتسق مع حالة الانسجام والتساوي التي خُطّط لها أن تحدث تماسًا قويًا على مستويات أخرى أيضًا بين الفيلم والمتلقي.
تأطير العناصر وتغيّر الشخصيات
استخدم الفيلم ثوابت متغيرة لتحديد وتأطير شكل الميعاد المنتظر لكل أطراف الحكاية، التي من ضمنها الجمهور، لتظهر الثوابت دائمًا في استخدام (مكان واحد للقاء، ثم تمشية بسيطة في إطار المكان، تاريخ محدد لليوم المشهود ١٩ ديسمبر، وبعض الأغنيات في شريط الصوت المرتبطة كليًا بعام اللقاء). أما عن وصفها بمتغيرة، فهي متغيرة بتغير العام، فلكل عام أغنياته وتفاصيله في الشوارع والملابس وهكذا، إضافة إلى ثبات بناء الحدث في كافة أيامه، حيث يبدأ بلقاء لشخصين في كل مرة متغيرين عن سابقتها، أحدهما تحقق في شيء، والآخر لم يحالفه الحظ، ثم بتبادل حديث طويل وبزوغ أمل في تحقق قصة الحب واعتراف أي منهما للآخر، ثم بظهور شيء يعوق هذا التحقق، لينتهي اللقاء بأمل مفتوح في التغيير والتوفيق في اللقاء المقبل. وهكذا، منوال متكرر من بناء الحدث وأسلوب السرد، وكذلك خلفيات بناء الارتباطات الزمنية، أي بناء إطار ثابت تسير بداخله شخصيات متغيرة.
ثوابت اللقاءات
حاول الفيلم تركيز الأغاني المميزة والمناسبة لكل حقبة، بخاصة في اللقاءات الأولى، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بها، وفي الحقبات الأخيرة قرر الاستناد إلى أغانٍ أكثر قدمًا، بين عبد الحليم وأم كلثوم، وحتى العنوان الفرعي للفيلم «وعملت إيه فينا السنين» من الأغنية الأشهر لوردة الجزائرية «العيون السود»، وذلك لتعزيز حالة النوستالجيا والابتعاد عن حالة الآنية مع اقتراب السنوات من الأعوام الحالية. تلك الركيزة التي لم يتخلَّ عنها أبدًا طوال الفيلم، حتى في المشاهد الأولى من لقاءاتهما أثناء مرحلة الثانوية العامة، بين أفلام مثل «في محطة مصر»، و«الرهينة»، وألبوم «الليلادي» لعمرو دياب، وكابينة “ميناتل”، وغيرها من الموتيفات النوستالجية البحتة، والتي ربما تستشعرها أجيال أخرى سابقة أنها لا تستحق أن توضع في خانة الذكريات، لكنها قريبة لجيل أوشك – أو ربما أقدم بالفعل – على مرحلة الثلاثينيات، وبالفعل أصبحت ذكريات تسعده عندما يشاهدها داخل فيلم سينمائي، لتعزيز حالة العادية المذكورة سلفًا أيضًا، في مشاهدة أفلام تخص جيلًا محددًا مر بالكثير من التقلبات، التي لم تكن بالضرورة مشابهة لتقلبات أبطال الفيلم، لكنها تبقى تقلبات وتغييرات جذرية بين عام وآخر، تتماس بكل تأكيد وفقًا لهوية “التغيير”.
بجانب ثبات بعض العناصر، قدّم المخرج ثابتة أخرى بين جملة متبدلة، تارة من يوسف وأخرى من عالية، تعبر عن معنى المرحلة والحقبة واللقاء الجديد بجانب تاريخ اللقاء، لتحديد أكثر لهويته وشأنه ومصيره.
تغيّر الشخصيات لا يعني تغييرها
بين هذا وذاك، لم تظهر في اللقاءات شخصيات أخرى كثيرة، ووجود أيٍّ منهم ما هو إلا عامل مساعد لبلورة التغيير الذي طرأ على الشخصيتين الأساسيتين، ليصبح العبء الأكبر على ممثلين حاولا الاجتهاد، ولكن كان تصدّرهما المشهد بمفردهما مخاطرة، ربحت في أوقات، وفي أخرى لم تكن في محلها، وذلك لعدة أسباب:
حيث يحمل الفيلم مقصده أنه في كل لقاء لم تظهر شخصيتان مختلفتان، بل هما أنفسهما: عالية ويوسف، ولكن بإحداث تغييرات. وتلك المعادلة هي الأصعب في تحقيق توازن بين الحفاظ على الشخصية نفسها مع بلورة التغيير، وليس لعب شخصية جديدة تمامًا.
هذا ما وقع فيه من خطأ كلٌّ من الممثلين الرئيسيين، فإذا تم تفكيك تلك اللقاءات خارج حدود إطار الفيلم ومقدمات اللقاءات والروابط الخاصة بالصوت والصورة والأسماء، لربما استشعرتَ أنك في كل مرة تُشاهد فيلمًا قصيرًا منفصلًا، ويبقى عنصر الحوار ورابط الفيلم هو القوام الأصلب في التأكيد على أنهما نفسيهما ولكن بعد التغيير، لكن يسير الأداء التمثيلي في جانب محاولة التغيير الجذري من حيث الأداء، فلم يحافظ أيٌّ منهما على لازمة أو تفصيلة تُبقيه شخصيته وتحافظ على هويته بشكل راسخ.
إضافة إلى أن بناء الحدث من حيث بدايته ومنتصفه ونهايته المتكرر، جعل دائمًا نهاية كل لقاء متكرر، وما ينقذ الإيقاع هو فضول ملاحظة التغيير في بداية المشهد وباقي عناصر شريط الصوت النوستالجية والصورة أحيانًا وجمال الأماكن.

لقطة من فيلم «6 أيام»
أماكن بلا هوية محددة
وعلى ذكر الأماكن، فهي على النقيض لا تحتفظ بهوية أو ارتباط شرطي مع الشخصيات مثلما حققتها عنصر الأصوات والأغاني والأفلام . ولكنه عدم حفاظ متسق مع فلسفة الفيلم، حيث لا روابط نوستالجية عميقة مثل شريط الصوت، بسبب انتقالهما بين كل لقاء وغيره من طبقات اجتماعية إلى أخرى، ومن مفضلات مكانية إلى أخرى، فتغيرات الأماكن وعدم الاحتفاظ بهوية وذوق محدد تتبع الحالة العامة للفيلم القائم على شخصياته، وكذلك التحديد والتأطير الإخراجي لمكان باعتباره بمثابة حالة من التوقف الزمني المؤقت داخل حدود معدومة الهوية متعددة الأشكال بصفته لقاء متغير وعابر غير راسخ كذكريات الأغاني.
بجانب استخدام عنصري الثبات والحركة متتالين في كل لقاء، حيث ثبات بتوقف الزمن بشكل مؤقت بين الشخصيات داخل مكان محدد، ثم بتمشية تالية تنم عن حركة حتمية وتغيّر لا محالة مقبل وحالة من عدم السكون اللانهائية لكل منهما، ومن ثم التعامل بذكاء مع اللقاء الأخير الذي يعتبر بمثابة لقاء استعادي وهو اللقاء الوحيد الذي تمسك حينها بهوية المكان، فبين كثير من الأماكن العابرة المتغيرة بين طبقات وأمزجة الأبطال، تأتي عودة أخرى لحي المنيل حيث لقاء الأطفال الأول، والسينما نفسها، بصفتهما أصحاب الهوية المنفردة بين سائر الأماكن العابرة، ليقدم الفيلم من خلال أماكنه النهائية أملًا جديدًا وحالة من السكون دون “تمشية” جديدة، ومُشاهدة لفيلم آني «الهوى سلطان» للاتساق مع كل ما تم ذكره في المقدمة، بجانب التأكيد على التمسك بالماضي لبناء ما هو قادم لبزوغ أمل جديد في عودة العلاقات لمسارها النوستالجي رغم كل ما مرت به على مدار ٤ لقاءات سابقة، ليرسخ الفيلم حينها لهويته التي لم تسع سوى لحالة رومانسية مليئة بالذكريات داخل إطار يحكمها، ذلك الإطار الذي أنقذ الإيقاع في لحظات وأضر به في أخرى، ولكن تبقى الحالة واضحة تستقطب جمهورها وتداعب ذكرياته وتسعده ببعض من جماليات الصوت والمحاولات الجادة إخراجيًا أيضًا بلا شك في اختيار عناصرها.